أجرى الحوار في بيروت: عبد الرؤوف المقدمي يجمع السياسي اللبناني البارز السيد ناصر قنديل بين أمرين، أوّلهما انتباه رجل السياسة للمجتمع حتى في سطحيته، وثانيهما عمق التفكير والايلاج في أغوار ما يدعو للتأمّل. وهكذا عموما يكون رجل السياسة لا أقول الناجح بالضرورة بل المحترم! وما يدعو اكثر الى احترام هذا الرجل هو أن ما توفّر فيه، نتج عن بيئة أو أصح داخل بيئة، معقّدة وضاغطة ومتنافرة، ومع ذلك حافظ الرجل على وضوح الرؤية واستشراف الواقع في حاضره وفي مستقبله، وهو ابن لبنان الذي يرتبط شأنه بالداخلي المعقّد وبالخارجي الاكثر تعقيدا. والحقيقة ان الذي نبّهني اليه هو الاخ الغالي عبد الحميد الرياحي، فكان أن زارته الشروق في مكتبه بالبرلمان في بيروت، بعد تأمّن اللقاء بجهد وكرم من السيد ابو سليم في دمشق. قال لي في الاول: كم من وقت معنا للحوار؟ قلت: ما يوفّره وقتك ورحابة صدرك، ضحكنا، ثم قلت سأبدأ بعودة بعض المناوشات حول مزارع شبعا بين المقاومة والجيش الاسرائيلي، أسأل الى اين يمكن ان تذهب هذه الحالة، وهلا تعتقدون في جنون ما سيصدر عن شارون؟ قال: أولا اريد ان الفت الانتباه الى ان هذا الصراع الذي تعيشه المنطقة والذي يشكل المشروع الصهيوني في العنوان الابرز في التحديات المطروحة على الأمة العربية، هو صراع لا يعرف حلاّ في الافق المنظور والمتوسّط كي لا نتحدّث عن الأفق البعيد، أقول ذلك انطلاقا من قاعدتين: الاولى نظرية وقد سبقني اليها الرئيس اللبناني الراحل شارل حلو، هو كان من كبار المثقفين الفرنكفونيين، كتب رسالة في صحيفة «لومند» عام 1968، يقول يخطئ من يعتقد بامكانية الحل للصراع في الشرق الاوسط لانه في زمن الحروب يكون الصراع على الارض، وفي زمن الحلول يصبح الصراع في السماء، لانه عندما تجلس على طاولة التفاوض على اليهودي ان يعترف بأن هذا الجدار اسمه جدار البراق وهذا مستحيل بالنسبة له لأنه عنده اسمه حائط المبكى، أو على المسلم الاعتراف بأن هذا الحائط المبكى وهذا مستحيل. ومن هنا تصبح القصّة في السماء. هذا الجانب يميّز الصراع هنا عن أي صراع آخر في الكرة الارضية. الامر الثاني ولكي لا أستفيض، أتخيّل عندما تتداعي الافكار في ذهني عن اي حجم من التعقيد نتحدّث. والبعد الثاني ايضا انه عندما كانت التجربة اللبنانية تقدّم مثالا ونموذجا ربما كان يشكل بداية الأمل بافضاح المجتمع الاسرائيلي للحل السياسي والتسليم بالحقوق العربية وان هذه التجربة هي نموذج ممكن لتشكيل بداية لسياق حل. والسبب هو أن هذا اللبنان الممزّق الضعيف، عندما يفكّر الاسرائيلي في سره لابد من أن يعترف بأنه حالة اذا تكررت فان علامة استفهام كبرى حول مستقبل اسرائيل لابده من ان تطرح. إذا كان اضعف الحلقات العربية قد استطاع كسر اسطورة تفوّق الجيش الذي لا يقهر، فإن أمل اسرائيل اصبح في الميزان ولا فائدة من سلاحها النووي ولا من تفوّقها ولا من قدراتها، وأن سلاح الاستشهاد الذي استعمله اللبناني ببراعة فائقة سيسقط كل ذلك. وكيف اذا استعمله الفلسطينيون وقد جاء بعدها السياق الفلسطيني. أقول قطع هذا السياق لأنه عندما كانت اسرائيل تخسر في جنوب لبنان كانت تسجل انتصارا غير مسبوق في البيت الابيض. وبالتالي كانت تنتقل العقيدة الصهيونة من تل أبيب الى واشنطن. وبدلا من أن تقيم موازين القوى على القدرات الاسرائيلية عاجزة عن مواجهة خيار المقاومة، اصبح ممكنا لها تقديم اغراء لجمهورها انها الآن تحرك قدرات القوّة الاعظم في العالم. وأنا لا اريد ان أكون تآمريا في تفسير حركة التاريخ، ولكن لا أريد أن أتجاهل حقيقة عندما يقف المنافس الجمهوري المحافظ لجورج بوش على انتخابات الرئاسة «باتريك بوكنين» ليكتب مقالا مطولا في مجلة المحافظين الامريكيين تحت عنوان عن حرب العراق «حرب من» ويجيب في 13 صفحة في 20 مارس 2003، أنها ليست حرب نفط ولا سلاح ولا ارهاب، وأنه علينا ان نعترف أنها حرب دولة وحرب زعيم وحرب حزب، إنها حرب دولة غير امريكا وحرب حزب غير الحزب الجمهوري، هكذا أجاب انها حرب اسرائيل وحرب الليكود لا أستطيع أن أتجاهل هذا الكلام حتى وإن لا أتبنّاه وهو يخرج من شخصية مرموقة داخل مرجعية القرار الامريكي، بمعنى يقول، إنها حرب 67 جديدة لأن اسرائيل عاجزة عن حرب 67 جديدة اي الحرب التي تقنع العرب بلا جدوى المقاومة وبلا جدوى الرهان على الزمن وبأن عليهم التسليم والدخول في ما ترغب اسرائيل فيه، قال ان اسرائيل عاجزة عن انتاج حرب شبيهة ل 67 وكان لابد لامريكا الدخول على الخط، وتنجز ما هو 67 بحجم عام 2000، فكان احتلال العراق لينتج ما انتجته 67، حيث سقطت الثوابت العربية، أنتجت سقوط خيار المقاومة، استكانة في الضفة الغربية، لا مقاومة تماما في غزّة، أنتجت قبولا عربيا بالمطالب الاسرائيلية، لذلك كان الرهان على حرب العراق لتؤدّي هذه الوظيفة. أنا أكرر المجتمع السياسي في اسرائيل ليس جاهزا ولن يكون جاهزا لفكرة السلام، والمجتمع العربي بعد خيار المقاومة في لبنان، والعراق وفلسطين، على الاقل ليس جاهزا للاستسلام، وبالتالي هناك توازن رعب بين القدرة الحربية الاسرائيلية الامريكية وقدرة الممانعة والمقاومة العربية والاسلامية. هذا التوازن على جبهة الجنوب نراه في اطلاق النار ولكن في المدى الأبعد هو توازن موضوعي سيحكم المنطقة لاجيال مقبلة، ولذلك لا نرى أننا مقبلون على حروب كبيرة، ولا أرى اننا مقبلون على حلول كبيرة، نحن مستمرون بالتناوب بين الحلول الصغرى في «الزواريب»، والحروب الصغرى فوق التّلال. قلت: يعني كما قال يوما كيسنجر «في ادارة الصراع»، طيب لو نعود الى شبعا، هناك بلا شك أغلبيته من اللبنانيين مع التحرير، لكن هناك بلا شك أصوات لا تريد من أن تكون شبعا لعودة الصّراع! أجاب: دعنا أوّلا نوصّف الامر بصورة اكثر دقّة اولا هناك اجماع على 3 عناوين بين اللبنانيين وتحتها قوس اختلاف: * النقطة الاولى هي مبدأ الشراكة الاستراتيجية بين لبنان وسوريا في خيارات الحرب والسلم. * ثانيا التمسّك بالمقاومة وحمايتها ومنع وصفها بالارهاب وحمايتها من صفة كهذه. * ثالثا التمسك بلبنانية مزارع شبعا وفي أن اسرائيل هي الخطر الاول على اللبنانيين، وفي أن الخلافات اللبنانية اللبنانية، او اللبنانية السورية، حول الية خيار المقاومة، وآلية الشراكة مع سوريا هي ملك لللبنانيين وللبنانيين والسوريين. لن يقبل أي لبناني دخول طرف ثالث عليها خصوصا عندما يكون اجنبيا يريد الحاق الاذى إمّا بالمقاومة وإمّا بسوريا. هذه ثوابت متفق عليها. المختلف حوله هو من يرى بأن خيار المقاومة يجب ان يبقى الآن معلقا على مرحلة غير قصيرة يجري خلالها اختبار الخيارات الديبلوماسية مرة ثانية، وهذا البعض انه الانسب والافضل للبنان قطع الطريق على الذرائع التي تبحث عنها الحكومة الصهيونية وان الشراكة مع سوريا شيء والتسليم بدور مرجعي لسوريا في هذه الشراكة هو شيء آخر. أقول إن أصحاب هذه النظرةفي الفهم الخاطئ للثوابت المشتركة والمجمع عليها هو قوة لابد منها من أجل الاجماع الوطني لكن هذه الضرورة لهم لا تعكس حجمهم في الحياة العامة وأنا هنا أستعير كلاما لأحد أبرز القيادات المسيحية المشهود لها بالحكمة وهو الوزير السابق فؤاد بطرس، يقول على الفريق اللبناني المتحفظ على خيار المقاومة والعلاقات مع سوريا وهو فريق مسيحي بنسبة كبرى ان يعترف بأنه أقرب الى الظاهرة الاعلامية منه الى الظاهرة السياسية. وان يعترف بأن غالبية عظمى من اللبنانيين تمثل تقريبا ثلثي المسلمين ونصف المسيحيين ترى غير ما يراه هؤلاء النافذون اعلاميا وغير النافذين شعبيا وترى ان الاحتكام الى المقاومة واطلاق يدها أفضل من غلّ يدها بداعي حكمة السياسيين وترى بأن الموقع المرجعي لسوريا ليس انتقاصا للسيادة والاستقلال بل هو جزء من ادارة الجبهة الواحدة في معركة الاستقلال الكبرى عن الهيمنة الأمريكية الاسرائيلية في المنطقة. وأقول على اللبنانيين ان يعترفوا لبعضهم البعض بأن وجود مسيحيين متحفظين على موقع مرجعي لسوريا في الداخل اللبناني أمر غير جديد ولا يجوز للمسلمين ان يتهموهم بالعمالة بسببه وبالخيانة للعروبة هو السابق حتى لوجود اسرائيل. عام 20 كانت غالبية مسيحية تعتبر ان أقصى مدى في العروبة هو رفض الوصاية الفرنسية وان التمسك باستقلال لبنان يجب ان يقوم على قاعدة رفض اي «مداخلة» عربية في لبنان. وعلى المسيحيين ان يقبلوا حقيقة ان تمسك المسلمين بخصوصية مرجعية لسوريا في حياتهم الوطنية واعتباره غير متناقض مع نظرتهم للسيادة والاستقلال سابق على دخول سوريا للبنان بل على نشأة اسرائيل ايضا لأنه في عام 20 ايضا اجتمع ما عُرف باسم مؤتمرات المحافظات الاربعة للشمال والجنوب والبقاع وبيروت وعقدت هذه المؤتمرات لقاءاتها تحت عنوان الانضمام الى مملكة «الملك فيصل» التي اتخذت من دمشق مقرا لها وبالتالي علينا ان نتصالح بأن التسليم بالخصوصية اللبنانية من جانب المسلمين وماتعنيه من مكانة مميزة للمسيحيين في الوطن منفصلة عن عددهم ولاتخضع لتناقصهم العددي، يجب ان يقابله تسليم مسيحي بالخصوصية اللبنانية السورية خارج اطار النقاش التقليدي لقضايا السيادة والاستقلال. أنا اعتقد ان هذا النوع من المصالحة لم يكن ممكنا في الطائف (يقصد مؤتمر الطائف للمصالحة اللبنانية) لأن الاحتلال الاسرائيلي للبنان كان قضية القضايا الضاغطة سواء على المراهنين بأن يؤدي الاحتلال الاسرائيلي الى مقايضة الانسحاب السوري بالانسحاب الاسرائيلي أو لدى المنتمين الى خيار المقاومة الذين كانوا يعطون الاولوية لكسب اجماع على اعتبار حالة المقاومة حتى لو أدى ذلك الى تنازلات في القضايا الاخرى. أقول الآن بعد التحرير وقد زال عن كتفنا هذا العنصر الضاغط المسمى الاحتلال نحن مدعوون الى مناقشة اكثر هدوءا واكثر عمقا وهي تجري على كل حال وفي زياراتي ولقاءاتي أناقش باستمرار غبطة الباطريارك الذي يمثل مرجعية وطنية بحق والذي يمثل بصورة او بأخرى رمزية الكيان السياسي اللبناني في ما نعتقد بأن التزاوج بين هذه المرجعيات وبين الامتداد الشعبي والسياسي المتمسك بدور مرجعي لسوريا في تنظيم ادارة الخلاف اللبناني دون المس بالأطر والأصول الدستورية بل وبرعاية الاحتكام اليها يتكاملان ونحن نسعى الى تحويل هذا التكامل الى نوع من أنواع المصّ السياسي في حياتنا الوطنية.