لما جاء أصحاب أبي حنيفة واتصلوا بالمذاهب الأخرى، واتصل أبو يوسف اتصالا عابرا بالإمام مالك ابن انس رضي الله عنه، واتصل الامام محمد بن الحسن اتصالا وثيقا متينا بالامام مالك، فانهم قد أخذوا باتصالهم مع المذاهب الأخرى جميع الأدلة التي كانت المذاهب المخالفة لمذهبهم تعتمد عليها في مخالفة مذهبهم، فيما خالفت فيه المذاهب الأخرى من الفروع، ومع ذلك فان أخذهم بهذه الرواية محمد بن الحسن «الموطأ» عن مالك بن أنس لم تقض أبدا بخروج واحد منهما عن المنهج المذهبي الذي سارا فيه وراء أبي حنيفة، بل التزما ذلك التزاما، وحافظا على الأصول التي وضعها أبو حنيفة ومنها الاستحسان، ورويا من الأحاديث ما لم يرو أبو حنيفة واستعملا من الأحاديث في الاستدلال ما لم يستعمل أبو حنيفة، ومع ذلك فانهما لم يخرجا ولا واحد من أصحاب أبي حنيفة عن المنهج الحنفي الذي وصف بكونه منهجا نظريا. وكثر الخلاف فيما بين أبي حنيفة وأصحابه حتى أصبحت المسائل التي وافق فيها كل من أبي يوسف ومحمد الإمام أبا حنيفة مسائل معدودة، أصبحت في عد ما يعهده فقهاء الحنفية لا تتجاوز الأشراط. فانهم مع ذلك لم يرجعوا عن أصوله ولا خرجوا عن مذهبه الذي تميز بالقواعد الاستدلالية. بل اعتبروا متمسكين به ملازمين له سائرين على طرائقه الاستدلالية، وإن اختلفا أو اختلف غيرهما من أصحابه معه في فروع كثيرة، فان واحدا منهم لم يخالفه في أصل من الأصول التي انفرد بها ولم يعمد الى القول بأصل آخر من الأصول التي انفردت بها المذاهب الأخرى. وهنا ينبغي أن نقف وقفة مناقشة مع كثير من المؤرخين أو من الفقهاء، ومنهم العلامة ابن خلدون، الذين أرادوا أن يعللوا معنى النظرية، أو مذهب الرأي في المذهب الحنفي بأنه أمر راجع الى قلة الرواية، وأن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه لم تتسع روايته في الحديث. ولذلك فإنه سد النقص أو العوز الذي كان عنده باعتبار قلة الأحاديث المروية لديه برجوعه الى أدلة الرأي، وهذا أمر لم يرتضه من قبلنا أحد من المتقدمين في مواقف الانصاف وهو الامام أبو عبد الله المازري، فان المازري في شرحه على «البرهان» لإمام الحرمين انكر ان يمكن اسناد هذا الى أبي حنيفة لأنه قال:«إنما نخالف أبا حنيفة في فقهه ولا نقدح في عدالته وإمامته». ولو كان الأمر كما ذكر هؤلاء لكان هذا أمرا قادحا في إمامته، وقادحا في عدالته لأنه لو كان قليل الحظ من الرواية لما كان له أن يقدم على الاجتهاد في الدين. يرجع إلى الأثر، وليس معناه أن رواية الأثر عنده قليلة، حتى أننا إذا سلمنا جدلا بقلة الرواية عند الإمام أبي حنيفة فلن نستطيع أن نسلم بذلك عند الإمام محمد ابن الحسن. ولكن الحقيقة ترجع إلى المعنى الذي أسلفنا تقريره وهو أن أبا حنيفة يروي الحديث كما يروي مالك الحديث. ولكنه لأدلة تعارض الحديث في نظره، لا يجعل الحديث دليلا يبنى عليه الحكم، ويبني الحكم على دليل آخر. وربما يكون الأمر راجعا الى مسألة ثانية ترجع الى طرق الترجيح، وهي أن الأسانيد التي كانت الأحاديث مروية بها عند أبي حنيفة لم تكن تقوى قوة الأسانيد التي كانت الأحاديث مروية بها عند غيره. ولذلك فاننا نعتبر أن معنى النظر أو الرأي عند أبي حنيفة إنما يرجع إلى أنه ينظر في الأحاديث. وتتوفر لديه الأحاديث المتعلقة بموضوع الحكم الذي يجتهد فيه. ولكنه يسلك كما يسلك غيره من المجتهدين طريق ترجيح الدليل الآخر، وأن معنى الغالبية أن المسائل التي وقع ترجيح الدليل الآخر فيها عند أبي حنيفة أكثر عددا من المسائل التي وقع ترجيح الدليل النظري على الدليل الأثري فيها عند المذاهب الأخرى. وهنا نلاحظ هذا بجلاء في أنه إذا صحّ ولن يصحّ ذلك أن يقال إن أبا حنيفة لم يكن متسع الرواية في الحديث، فانه ليس من المفروض أبدا أن يقال إن محمّد بن الحسن الشيباني كان ضعيف الحظ من رواية الحديث. ولكنه كان محدثا جمع أحاديث الحجاز، وأحاديث العراق، ومع ذلك فانه في كتبه انتصب لجميع الأحاديث التي رواها مما يخالف طريقته الاجتهادية التي هي طريقة أبي حنيفة، يردها بمختلف طرق الرد، حتى أنه في روايته لموطإ مالك بن أنس كثيرا ما يروي الحديث عن مالك أو يروي قول مالك، في عمل أو اجتهاد أو نقل اجتهاد ثم يعقب على ذلك بأنه ليس مأخوذا به عند أهل العراق، ويقول: قال محمد وأنا لا آخذ بذلك.