كان أيمة المذاهب الاربعة سنّيين وكانوا بذلك مجافين لمذهب الاعتزال منكرين عليه، واستمرّ أتباع المذاهب وأيمة المذاهب الذين نشأوا متأخرين في القرن الثالث مثل الامام أحمد بن حنبل استمروا على الموقف السنّي الذي هو موقف أهل الحديث في مقابلة النزعة الكلامية المخالفة لطريقة السنّة أو طريقة الحديث، وهي النزعة الاعتزالية، فكان كل من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أو أحمد بن حنبل بنفسه على موقف واحد في مقاومة المعتزلة ومجافاتهم والازورار عنهم. ولكن الإمام أحمد بن حنبل باعتبار كونه بتأخّر حياته رضي ا& عنه أدرك عصر الفتنة الكبرى وامتحن فيها الامتحان الشهير، ووقف فيها وقفته العجيبة للذود عن السنّة ومقاومة البدعة، فإن ذلك أبرز إمامته بصورة واضحة بين أتباع المذاهب السنية بأسرها على اختلاف المذاهب التي يرجعون إليها من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من المذاهب الأخرى التي لم تزل موجودة يومئذ ثم انقطعت فيما بعد مثل مذهب الأوزاعي ومذهب داود الظاهري فاعتبر الامام أحمد إماما لجميع المسلمين المتمسكين بالسنة. وكان مظهر ذلك في الصورة المادية جنازته العظمى التي ضرب بها المثل في التاريخ، ولكن سرعان ما ظهر بقرب عهد هذه المحنة قربا ما طريقة الإمام الاشعري في القرن الموالي. فكان الأشعري كما هو معلوم آخذا بحظ من الطرائق الاعتزالية ومتمسكا بالعقائد السنية. فكان ينصر عقائد أهل السنة بطرائق استدلال أهل الاعتزال. وهذا هو الأمر الذي حيّر الناس أوّلا في شأن الأشعري، وحملهم على أن يستصعبوا امكان ما دعا اليه الاشعري من الجمع بين طريقته الجديدة وبين الطريقة السنية التي كانت مجافية لعلم الكلام، من حيث إنهم رأوا أن الكلام شيء وأن الحديث والسنّة شيء آخر، وأن الجمع بينهما إنما هو كالجمع بين الماء والنار. الامام الأشعري فانتصب الاشعري يبيّن على خلاف هذا ويقيم الأدلّة عليه،ولما كان الامام أحمد هو الذي اعتبر، في القرن الذي قبل قرن الأشعري، علم السنة وإمام أهل الحديث وأهل السنّة فإن المعنى الذي ساد على الأفكار من صعوبة الجمع بين طريقة الأشعري والطريقة السنية إنما تركّز على شخص الاشعري في مقابلة شخص الامام أحمد بن حنبل. فأصبح الاشكال واردا على انكار الجمع بين ما كان يقوله الامام أحمد بن حنبل والذي اعتبره الناس امام أهل السنة أجمعين في موكب المحنة وبين ما يقوله الأشعري مما يدّعي أنه طريقة أهل السنّة. ومع ذلك فهو في ظاهرة بادي الرأي مخالف لما وقفه أحمد بن حنبل من مواقف في وجه المعتزلة. ولأجل ذلك فإن الأشعري كان يشتدّ في الدفاع ضد هذا.وكان يحتدّ في بيان أن لا خلاف بينه وبين أحمد بن حنبل، وأن لا خلاف بينه وبين أهل الحديث. فقد أكّد ذلك في كتاب «الإبانة» وبيّن أنه على عقيدة الإمام أحمد بن حنبل وعلى طريقته. وبيّن في كتاب «مقالات الاسلاميين»، أنه على طريقة أهل الحديث. وأن الفرقة التي ينتمي إليها إنما هي فرقة أهل الحديث. وبهذا بدأ أتباع المذاهب السنية يطمئنون الى أن ما أتى به الاشعري وان كان جديدا في قالبه وشكله الا أنه لا يعتبر جديدا في جوهره وروحه، لأن الاشعري وأصحابه قد أكّدوا للناس أن لا غاية لهم من هذا المنهج الكلامي الجديد الا احقاق الحق بنصرة عقيدة أهل الحديث وعقيدة أهل السنة، وأن ما يدعو اليه أحمد بن حنبل، ومن قبله من أيمة الهدى، هو عين ما يدعو اليه هذا اللون الجديد من علم الكلام. فلما بدأوا يطمئنون الى هذا المعنى بدأ هذا الاطمئنان يشيع في أتباع الامامين مالك والشافعي. وبقي الازورار والحذر يسيطر على أتباع مذهب أحمد بن حنبل، لأن إمامة أحمد بن حنبل للحنابلة إنما كانت إمامة مطلقة، وإمامته للشافعية والمالكية إنما كانت إمامة نسبية باعتبار كونه الرجل الموفق من أيمة الهدى الذي نالته المحنة فصمد لها ووقف في وجهها. ومن هنالك بدأ نوع من التلاقي الزائد بين المالكية والشافعية، يقابله نوع من الفتور أو الازورار فيما بينهما معا وبين الحنابلة من الطرف الآخر.