في البداية أرفع إليكم جميعا أصدق التهاني بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك أعاده الله على الجميع باليُمن والبركة، ثانيا: أعتذر عن هذا الانقطاع في سرد ذكرياتي عن طه حسين التي بلغنا فيها إلى الحلقة السابعة وقد اضطررنا إلى تأجيل بقيتها إلى الأسبوع القادم بسبب حلول عيد الفطر المبارك. وسنواصل سرد ذكرياتنا عن طه حسين في لقائنا القادم، ولنقل اليوم كلمة تتعلق بالعيد بين «المتشائلين». يوحي العيد عادة للناس عامة بالسرور والحبور، وللشعراء خاصة بالشعر المتفائل الذي يبعث على تقديم التهاني وأطيب الأماني، ولكني ألاحظ أنه لا يتبادر إلى ذهني في كل عيد إلا الشعر المتشائم، وفي مقدمته قصيدة المتنبي: عيد بأية حال عدت يا عيد؟ بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ؟ فتساءلت: لماذا يُكثر الشعراء من التباكي في العيد، وعندما تأملت في البواعث التي دعت إلى غَلَبَةِ الحزن على تلك القصائد، تيقنت أن لحزنهم بواعث أخرى غير عودة العيد، وأهمها فقد السرور الذي كانوا يتوقعونه وينتظرونه في هذه المناسبة، لأنهم يتذكرون الأشياء السارة في يوم الفرح، وعندما لا يجدونه تثير شجونهم وتسيل شؤونهم لعدم تحققها. ولعل المتنبي كان من أقدم مَن ذكر الحزن يوم العيد في القصيدة التي قالها إثر فراره من كافور الذي منعه من مغادرة مصر خشية هجائه إن خرج من منطقة سلطته، فلم تكن شكوى المتنبي من يوم العيد ولكنه شكا سوء حظه في ذلك اليوم الذي كان من المفروض أن يكون فيه سعيدا. وقد اشتهر أمر هذه القصيدة بين الشعراء، حتى أشار إليها الشاعر السعودي المعاصر ضياء الدين رجب في مطلع قصيدة طويلة بعنوان«يا عيد» كتبها على نمط قصيدة المتنبي بحرا وقافية وتراوح فيها القول بين التشاؤم والتفاؤل مطلعها: ما أخطأ المتنبي فيكَ يا عيدُ فكم تحرَّاكَ محظوظ ومنكودُ وقد أكد هذا الشاعر نفس الموقف في قصيدة أخرى بعنوان «ليلة العيد»، تذكر فيها «المحبوبة» النائية في بلاد الشام وكان من المفروض أن يفرح بلقائها في هذه المناسبة السعيدة ولكن الظروف حالت دون ذلك فقال: ذكرتكِ في الليلة الحاليهْ من العيد أبكي على حاليهْ أرى فرحة الناس في عيدهم وفرحة نفسي هي الباقيهْ وينعم حِبٌّ بمحبوبه وأشكو من الوحدة القاسيهْ أقول لنفسيَ: هل من جَناحٍ أطير إلى الشام في ثانيهْ وألْقََى العزيزة في حيِّها وتلمَسني كفُّها الحانيهْ أقبِّل منها يدا طالما رعتني بألطافها الساميهْ أشُمُّ من الروض ورد الحياة وأقطف أزهاره الزاهيهْ سأَلقَى بكِ الغيدَ يوم اللقاء فما العيدُ إلا المنَى الغاليهْ كأنه قد تذكر قول الشاعر القديم حين نادى سرب القطا بقوله: أسِرْبَ القطا هل مَن يعير جناحه لعلي إلى من قد هوِيتُ أطيرُ؟ وهكذا نرى أن معظم الشعراء لا يكرهون العيد ولا يضيقون ذرعا بقدومه، كما قد يفهم من كثير من قصائدهم، بل يرون فرحتهم منقوصة فيه فيعبرون عن حسرتهم لذلك النقص الذي يتمنون إكماله، والفراغ الذي يتألمون لعدم تسديده، فقد تذكر هذا الشاعر أيامه السعيدة الخوالي مع «المحبوبة» التي أبعدتها عنه الأيام، في بلاد الشام، وتركته بعيدا عنها في الحجاز، فلم تكتمل فرحة العيد في قلبه، لذلك تذكر أيام الفرح وتمنى أن تعود المياه إلى مجاريها، وهكذا نرى أنه لا يمكن أن يكون العيد مصدر تشاؤم وشكوى، لأن الذين جمعتهم الأقدار بمن يحبون في العيد وغمرتهم السعادة فيه لم يتشاءموا ولم يتباكوا. وليس أدل على صحة هذا الرأي من أننا نرى إيليا أبا ماضي قد نظر، إلى العيد نظرة سلبية لأنه رأى فيه الفقراء لا يتمكنون فيه من اقتناء أثواب العيد الجديدة بينما الأغنياء يرفلون بحلوله في الحلل الفاخرة، ولكنه نظر إلى العيد بعين الرضا فقال في قصيدة بعنوان «روعة العيد» كتبها على نفس بحر دالية المتنبي التي قالها في هجاء كافور، ولكنه خالفه في كسر رويها، فقال في عيد استقلال وطنه لبنان الذي لا يمكن أن يكون إلا سعيدا: يا شاعر الحسن هذي روعة العيدِ فاستنجد الوحي واهتف بالأناشيدِ هذا النعيم الذي قد كنت تَنشُده لا تلهُ عنه بشيء غير موجودِ.. ولستَ تبصر وجها غيرَ مؤتَلق ٍ ولستَ تسمع صوتا غيرَ غِرّيدِ وفي عيد آخر أراد هذا الشاعر أن يهدي حبيبته هدية، ولكنه كلما فكر في هدية زعم أنه وجدها عندها – وأعذب الشعر أكذبه، والكذب في المصالح جائر كما يقول العوام - لذلك لم ير أحسن من روحه التي جعلها «هدية العيد» لحبيبته فقال لها: أيَّ شيءٍ في العيد أهدي إليْكِ يا ملاكي، وكل شيء لديْكِ؟ أسِوارًا أم دُملجًأ مِن نُضارٍ لا أحِب القيود في معصميْكِ أم خُمورًا؟ وليس في الأرض خمرٌ كالذي تسكبين مِن عينيكِ أم وُرودًا؟ والوردُ أجملُه عن دي، الذي قد نشقتُ من خديكِ أم عقيقًا كمُهْجتي يَتَلظى والعقيق الثمين في شفتيْكِ ليس عندي شيء أعََزُّ من الرو حِ، وروحي مرهونة في يديْكِ وقد كان هذا الشاعر، في تقديم هذه الهدية المعنوية، بارع الذكاء حسن التخلص من شراء الهدية التي تكلفه الأموال الطائلة. وقد أهدى حسن حسني عبد الوهاب كتابه «شهيرات التونسيات» إلى ابنته الوحيدة نائلة بنفس الطريقة هكذا: «...وددت أن أهديكِ عِقدًا تندمج في سمطه جواهرُ حِسانٌ, ويواقيتُ ثِمان – حُورٌ مقصوراتٌ في الخِيام – يزري شعاعها بالكواكب، والنجمِ الثواقب، فطالعي بنيتي إشراق سناها تجِدي سراجًا وهاجا يضيء حياتك ويهدكِ صراطا سويّا...» وقد أثبتت الأيام أن هديته أبقَى من كل ثمين عزيز ومن الذهب الإبريز. وأعود إلى أبي ماضي الذي تخلص مرة أخرى فكر في هدايا طريفة لا تخطر عادة على بال الناس الذين رآهم قد خرجوا لشراء الهدايا لأحبابهم، فتمنى أن يقدم هدايا معنوية إلى أصناف من الناس لا تكلفه شيئا، فقال من قصيدة طويلة بعنوان «هدايا العيد»: خرج الناسُ يشترون هدايا العيد للأصدقاء والأحبابِ فتمنيتُ لو تُساعِفُني الدنيا فأقضي في العيد بعضَ رِغابي كنتُ أُهدي إذن من الصبر أرطا لاً إلى المُنشئين والكُتّابِ وإلى كل نابغ عبقري أمّةً أهلها ذوو ألبابِ وإلى كل شاعر عربيٍّ سَلّةً من فواكه الألقابِ ...وإلى الناشئ الغرير مِرانًا وإلى الشيخ عزمةً في الشبابِ وإلى مَعْشر الكُسالََى قصورًا من لجينٍ وعسجدٍ في السحابِ علَّني أستريح منهم فقد صا روا كظِلِّي في جيأتي وذهابي ..وإلى الصاحب المراوغ وجها أسودًا حالكا كوجه الغرابِ فإذا لاح فرّتِ الناس ذُعْرًا مِن طريق المنافق الكذابِ ..وإلى حاسديَّ عمْرًا طويلا ليدومَ الأسى بهمْ مِمّا بي ..لم يكن لي الذي أردت فحسبي أنني بالمُنَى ملأتُ وِطابي ولوَ انّ الزمانَ صاحبُ عقلٍ كنتُ اُهدي إلى الزمان عتابي إن مواقف الناس من العيد تكون حسب حالتهم النفسية، وإن هدايا العيد متنوعة بعضها معنوي ثمين، وبعضها مادي يبلى بمرور الأيام، وقد آثر هذا الشاعر، أن يهدي في يوم العيد هذه الهدايا المعنوية التي لا يفكر في مثلها إلا شاعر يبحث عن الطريف مما يفكر فيه الخاصة ولا يخطر على بال الداصّة. وليتنا نستطيع إهداء أمثال هذه الهدايا إلى أمثال هؤلاء الناس. وأخيرا أجدد لكم التهاني بالعيد ونعدكم بالعودة في لقائنا القادم إلى ذكرياتي الخاصة جدا عن عميد الأدب الدكتور طه حسين وهي عندي من أثمن الهدايا فإلى اللقاء.