لم أقرأ للكاتبة اللبنانية لطيفة الحاج قديح عملا من أعمالها المنشورة إلا هذه الرواية «صخر الروشة» التي أهدتني نسخة منها عند لقائنا في الجزائر قبل حوالي العامين. ويمكن القول بأن لطيفة ذهبت في روايتها هذه إلى رصد تحولات حياة بعض الأسر اللبنانية العريقة التي كانت تقيم في بيروت، والتحولات التي طرأت على حياة هذه الأسر على يد جيل الأبناء بعد مغادرة الآباء الحياة، فهؤلاء الأبناء لم يشبّوا على ما أراده لهم الآباء مزارعين، لهم بيوت فارهة تتوسط مزارعهم الملأى بكل خيرات الأرض، وليس بعيدا عنهم سواحل البحر النقية. كأن هؤلاء الأبناء كانوا ينتظرون وفاة آبائهم لتتحول المزارع إلى عمارات كونكريتية تضم شققا صغيرة هي أقرب إلى الأقفاص منها إلى بيوت البشر. وتركز الكاتبة على عائلة صخر التيمي الذي (لم تكن علاقته بالأرض علاقة عادية، بل علاقة حبيب بحبيبته.. وقد حاول أن ينقل هذا الحب إلى أولاده) ويبدو أنه قد عجز عن ذلك. وتحاول الكاتبة أن تقدم كشفا عن المفاهيم الأخلاقية والتقاليد التي تتحكم في حياة هذه الأسرة (أسرة صخر التيمي) وعلاقتها بالأقارب، العم، والخال، وذريتهما، وكذلك علاقتها بالأسر التي تتجاوز مزارعها في هذه المنطقة التي كانت ذات يوم، ولم تعد مثلما كانت عليه إذ أصبحت بهيئة أخرى لا علاقة لها بتلك المزارع الوارفة الظلال ولا بتلك العلاقات المبددة. تركز الكاتبة على هيفاء بشكل خاص، وهي صغرى بنات صخر التيمي ومدللته التي واصلت تعليمها أسوة باخوتها الذكور على عكس اخواتها الأخريات اللواتي تزوجن وأنجبن. لم تعرف هيفاء أية علاقة مع شاب في مثل سنها لكنها انجرفت في علاقة ووجدت نفسها فيها غير عامدة، إذ أن صديقة لها كانت معجبة بشاب من الجوار ولم يهتم بها، وبدأت لعبتهما (هيفاء وصديقتها) بأن تكلمه هيفاء، ولكنها انساقت لتجد نفسها معه في سيارته، وقد حملها إلى «شاليه» خاص به. هنا تناقش الكاتبة مسألة العذرية وماذا تعنيه؟ إذ أن هذا الفتى تركها ما أن انتهى منها، ولكنها عجزت عن اقناعه بالارتباط بها. وعندما رتبت الأسرة زواجها من ابن عمها كانت «الفضيحة» بأن ركلها ورماها في الشارع بثياب نومها، فلم يبق لها إلا الاحتماء ببيت أخيها المتزوج من فرنسية ساهمت في حمايتها مما هي عليه، وقد طلقها الزوج منذ الليلة الأولى فكان الحل الذي توصلت إليه مع شقيقها وزوجته هو السفر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه. ربما تبدو هذه الحكاية مكرورة، معادة، خاصة ما تعلق منها بالعذرية، ولكنها في رواية لطيفة غنت شيئا أبعد مدى من هذا حيث كانت الحادثة مجرد وقفة من وقفات التحدي التي عاشتها هذه الفتاة سواء باصرارها على اتمام دراستها، ثم دخول الجامعة على نقيض شقيقاتها، أو بتجاوزها لما عاشته في تلك العلاقة التي كانت أشبه بلعبة صبيانية، ولم يكن ما حصل برغبتها بل سمته اغتصابا سكتت عنه، ولم تبح به لأحد. وقد كان عنوان الرواية «صخرة الروشة» رمزا لتحدّيها وانتصارها على ما هي عليه، وتجاوزها له، فصخرة الروشة الشهيرة في لبنان هي بقدر ما فيها من جمالية طبيعية نادرة هي في الآن نفسه «قبلة المنتحرين» ومن لسانها الشاهق المطل على البحر كم من منتحر رمى بنفسه فابتلعه الماء. أما هيفاء التي وقفت هناك لتنتحر، سرعان ما انسحبت، واعتبرت الانتحار هروبا من المواجهة، ولذا كان ما فعلته انتصار لها أمام ضعفها البشري، وبهذا الفعل تجاوزت محنتها فتوجهت نحو بيت أخيها فكان الحل برحيلها لتبدأ من جديد. يمكن القول عن رواية لطيفة الحاج قديح إنها رواية محافظة، بل وأخلاقية، ليس فيها من الاسهابات الجنسية الزائدة التي حفلت بها روايات كاتبات أخريات ليقال عنهن بأنهن متمردات، خارجات عن قوانين المجتمع.. الخ. مع ان في الرواية ذرى جميلة.. ذرى فنية وعلى مستوى الأحداث ليس أقلها طرد زوجها لها في ليلة زفافها بذلك الشكل الفضائحي الصارخ. انها رواية جميلة عن بيروت التي كانت بجغرافيتها وأسرها العريقة قبل أن تقصفها المعاول لتتحول إلى عمارات وفنادق ومطاعم وملاه. ومن أجمل الشخصيات في الرواية شخصية «أم سعيد» الخاطبة التي كانت تحمل صور الفتيات والشبان لجمع الرؤوس بالحلال فتنال نصيبها من الهدايا المالية والمكافآت، وكانت تحوم حول هيفاء بطلب من أمها لتجد لها زوجا. كما ان الخلفية السياسية للأحداث المتعلقة بما يجري في البلد كانت حاضرة، لا سيما وأن شقيقها عاصم كان ناشطا سياسيا، وقد تطرقت الكاتبة إلى خلفية أحداث 1957 في لبنان حيث بدأ اهتمامها بالسياسة وهي طالبة في الجامعة آنذاك وشاركت في التظاهرات التي سقط ضحية لها عدد من طلبة الجامعة. كما ان فلسطين حاضرة في الرواية من خلال شخصية مها الفتاة الفلسطينية التي كانت تربطها بهيفاء صداقة قوية ثم انقطعت أخبارها بعد أن انتقلت إلى مخيم عين الحلوة، وقد ذهبت لتبحث عنها في هذا المخيم حيث تقدم وصفا مؤثرا لحياة الناس فيه، ثم تعرف أن مها اختارت طريقها بالانتماء إلى الثورة الفلسطينية ممثلة بحركة فتح، وتوجهت نحو احدى قواعد الحركة لتتدرب على السلاح. أحداث كثيرة حوتها هذه الرواية المكتوبة بأناة وصفاء على امتداد صفحاتها (342) صفحة والتي قامت بنشرها دار الفارابي المعروفة.