جرجيس هي مدينة ساحلية قديمة أسّسها الفينيقيون عندما اتجه اهتمامهم بالحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط وخاصة بعد تأسيس قرطاج (814 ق.م) فسيطروا على الشريط الساحلي للجنوب الشرقي التونسي «منطقة سرت الصغرى» بما فيها شبه جزيرة جرجيس ونظرا لأهمية موقعها تم تشييد مدينة زيطا على مرتفعات هنشير زيان التي تبعد عن جرجيس بنحو 8 كلم غربا وكانت مركز الحياة السياسية والاقتصادية ازدهرت في القرن الأول والثاني خاصة واشتهرت بزيوتها وخمورها. وفي القرن الثاني عشر في نهاية الامبراطورية الرومانية بيّن الادريسي في نزهته أن المنطقة الساحلية كانت عامرة يسكنها قوم من الوهبية غرسوا النخيل والكروم وتحصّنوا في جرجيس وشماخ. وجرجيس كانت ميناء لتصدير الملح المفضّل على جميع أملاح الدنيا حسب تأكيد الرحالة التيجاني. ويسمى سكان شبه جزيرة جرجيس «عكّارة» نسبة الى الشيخ الصياح العكاري (أصيل المغرب الأقصى) الذي رابط أثناء النزاع العثماني الاسباني في موقع مرحلة من مراحل قافلة الحج على مقربة من مدينة بنقردان المستحدثة حيث يوجد ضريحه وكان معلما هاما ومزارا منتظما مشهودا تؤمه جموع عكارة في موسم الربيع من كل سنة. التفّ عكارة حول جدهم الصياح وكانوا من صف الحسينية آزروا أولاد حسين بن علي برّا وبحرا لكنهم انهزموا في جزيرة جربة أمام الباشية (1735) قبل أن يدركهم النوايل (المقيمون حاليا بزلطن في ليبيا) وأجلوهم من شبه الجزيرة فتفرقوا قاصدين نواحي متعددة (الغار وضواحي طرابلس وبني معقل في جربة والساحل التونسي والوطن القبلي وأرياف بنزرت...) ولم يعودوا الى جرجيس الا بعد انتصار الحسينية النهائي في عهد علي باي (17591782) الذي بنى لهم برجا محاطا بخندق ومعزّزا بخمسة عشر مدفعا تعلوه قنطرة معلّقة، واقطع علي باي عكارة كامل المنطقة الساحلية (من الحدود مع ليبيا الى خليج بوغرارة) وبدأت فترة استقرار نسبي تخللتها من الحين الى الآخر غارات النوايل، وفي تلك الفترة بنت فروع عكارة الستة (أولاد بوعلي أولاد امحمد أولاد سعيد الزاوية المؤانسة الخلايفة) منازلهم وقصورهم حول جرجيس وانتحلوا الزراعة والرعي وصيد الأسماك. واستمر نشاطهم الفلاحي في مجال زراعي مساحته 60000 هكتار الى أن طرق البلاد طارق الاحتلال الفرنسي فأصبحت جرجيس بحكم قربها من الحدود مع ليبيا من أهم المراكز الحربية يسوس شؤونها المدنية ضباط عجلوا ببناء مدينة عسكرية مسيّجة كبتت تنفّس المدينة القديمة ومنعتها من التوسّع نحو الشاطئ (نفس الحال حتى الآن) فنزلت بناءاتها الى سهل القرعاء وعلى طول طريقي جربة ومدنين وسكن المدينة بعض الأوروبيين وجمع من يهود جربة بيد أن عكارة آثروا بناء منازلهم في البساتين المحيطة بجرجيس والأخرى الممتدة على طول الساحل الشمالي. وفي سنة 1897 ابتز الاستعمار ثلث الأراضي الصالحة للزراعة ووزعها على 13 معمّرا ثم حبس بعد الحرب العالمية الأولى ثلثا آخر في صيغة ملكية على الشياع واستأثر بصيد الأسماك في بحيرة البيبان. فلم يبق لعكّارة وقد تقلّص مجالهم الا الهجرة الى مدينة تونس والتخصص في صيد الإسفنج واختار البقية غراسة ما تبقى لهم من أراض بأشجار الزيتون حتى تجاوزوا حدودهم الادارية فأحيوا بالمغارسة أراضي دخلة ورغمّة. ولئن تجسّمت غريزة عكارة الدفاعية ضد الاستعمار الزراعي في غراسة الزياتين بصفة مكثفة وسريعة فقد أدّت خاصة بعد الانتزاع الذي تم بمقتضاه بناء مدينة بنقردان لتمصير «التوازين» وتعويض أملاك عكارة الخاصة بأملاك عروشية بهدف «حمايتهم» من المد الاستعماري الزراعي مما أدى الى تقلّص مساحة المزارع والمراعي واختلال التوازن الاقتصادي التقليدي وتفتّت الملكية عند الأغلبية وتجمعها عند بعضهم من غير عكارة في الغالب. وقد شهدت هذه الفترة ردود فعل عكارة تجاه الاحتلال الفرنسي منها العفوية اتجاه افتكاك المعمرين لأراضي الأهالي عند بدايات الاحتلال ومنها المنظمة من خلال الانخراط في الحركة الوطنية والالتزام ببرامجها وخططها وأوامر قياداتها. وتقتضي الأمانة العلمية الإشارة الى أن الأستاذ عبد المجيد الذويب الذي أوردنا تلخيصا موجزا لدراسته القيمة، هو أول من تصدّى لضبط تاريخ جرجيس، وتحليل خصوصياتها القبلية، والسوسيولوجية والجغرافية. وعلى نتائج أبحاثه الرائدة التي نشرها باللّغتين العربية والفرنسية أعتمد من تناولوا الموضوع بعده، فمنهم من وضّح ذلك بموضوعية علمية، ومنهم من لا يذكره رغم ثقل الدين وواجب الاعتراف بالفضل لذويه. محمد نجيب العليوي المصدر: ملخص مقال للاستاذ عبد المجيد الذويب