يسجل للشاعر العراقي المعروف سامي مهدي قدرته النادرة في البحث والاستقصاء، وله عدد من المؤلفات التي تؤكد هذا المنحى رغم أنه أحد أعلام الشعر الستيني في العراق ومن هذه المؤلفات نذكر: أفق الحداثة وحداثة النمط، وعي التجديد والريادة الشعرية في العراق/ الموجة الصاخبة، شعر الستينات في العراق/ نظرات جديدة في أدب العراق القديم/ الثقافة العربية من المشافهة الى الكتابة، ومؤلفات أخرى، كما عنى بالترجمة عن اللغتين الفرنسية والانقليزية فترجم لجاك بريفير وهنري ميشو ومختارات من الشعر الاسباني وأخرى من الشعر العالمي، ولكن تميزه كان في مجاميعه الشعرية التي بلغ تعدادها ست عشرة مجموعة أهلته لأن يكون الشاعر العراقي الأبرز بين أبناء جيله. وقد انتبه سامي مهدي الى تجربة الشاعر توفيق صايغ الذي عاش بين عامي 1922 1971 وتنقل بين أمريكا وبريطانيا ولبنان حيث أسس مجلة «حوار» التي أوقف إصدارها بعد أن تأكد له أن منظمة حرية الثقافة الأمريكية التي مولت هذه المجلة ومجلات مشابهة صدرت بلغات عالمية أخرى كانت تمول من قبل المخابرات المركزية الأمريكية. ورغم أن توفيق صايغ لم يعش إلا خمسة عقود إلا أنه الى جانب جهوده في التدريس الجامعي أصدر عددا من المؤلفات أهمها «أضواء جديدة على جبران» وترجم أربع رباعيات ل(ت. س. اليوت) و(خمسون قصيدة من الشعر الأمريكي المعاصر). وله أربعة دواوين صدرت بعد ذلك ضمن أعماله الشعرية والأدبية الكاملة بعد أن صدرت متفرقة وهي: ثلاثون قصيدة / القصيدة ك/ معلقة توفيق صايغ/ صلاة جماعة ثم فرد. إن قراءة سامي مهدي لشعر توفيق صايغ هي القراءة التي نريدها لشعرنا العربي الحديث بعد أن تكاثرت الكتابات البعيدة عن الموضوعية لشعر هذا الشاعر أو ذاك، ولنا مثال في توفيق صايغ نفسه إذ أن هذا الكم من دواوينه لم تحظ بالكتابات النقدية المطلوبة إلا من بعض أصدقائه، مثل جبرا ابراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي، وما كتباه عنه بشكل دقيق. وقد وزع المؤلف كتابه هذا على خمسة فصول وخاتمة والفصول هي: شعر صايغ ونقاده/ مشروع صايغ الشعري: مرجعياته وموجهاته/ تجربة صايغ اللغوية/ صايغ والبحث عن نظام ايقاعي بديل/ شعر التجربة الدينية الانقليزي وتأثيره في شعر صايغ. وفي تقديم كتابه يقول المؤلف بأن (فكرة الكتابة عن تجربة توفيق صايغ الشعرية تعود عندي الى ثمانينات القرن الماضي فهي كما أرى تجربة خاصة لا شبيه لها). بل ليس لها صلة بتجارب شعرائنا المحدثين شكلا ومضمونا، اللهمّ إلا كونها واحدة من هذه التجارب وخصوصيتها هذه هي ما يجعلها جديرة بالبحث والدراسة). ويقول بأنه كان يرى في هذه التجربة دائما غير ما رآه من كتبوا عنها من المختلفين بها أو المتحاملين عليها، وهذا مما أبقاها خارج البحث الموضوع الرصين). ويعترف المؤلف بأنه ما كان بإمكانه أن يكتب هذه الدراسة (إلا بعد صدور كتاب الباحث محمود شريح «توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى») لأن قراءته لهذا الكتاب هي التي وفرت له (معلومات كثيرة وأساسية كنت في حاجة إليها، ومن دونها كنت سأتخبط وأرتجل). وهذا الاعتراف يحمل الدليل على أريحية سامي مهدي وإعطاء كل ذي حق حقه، فكتاب شريح الذي قرأته شخصيا قبل سنوات قدّم لنا تفاصيل حياة توفيق ومواقفه وخياراته التي كانت مجلة «حوار» ذروة مأساته حيث وجد نفسه متهما وهوجم بضراوة ورفض يوسف ادريس جائزة هذه المجلة للقصة القصيرة لكونها تمول أمريكيا (وكما ذهب الى هذا محمود شريح ذهبنا أيضا في كتابنا من ذاكرة تلك الأيام جوانب من سيرة أدبية). يرى قارئ كتاب سامي مهدي هذا أنه مختلف مع الذين كتبوا عنه مادحين، وقال بموضوعيته المعروفة: (لندع توفيق صايغ الرجل، الانسان، فهو لا يعنينا هنا. فقد يكون انسانا رائعا ومثقفا كبيرا، كما يذكرون، وقد تكون حياته قاسية وأليمة ووفاته خسارة كبيرة كما يقولون، لكن ما يعنينا هنا هو شعره وما له صلة مباشرة بهذا الشعر من سيرة حياته وثقافته). ومن خلال القراءة السابرة لقصائد صايغ يعيدها المؤلف الى مرجعياتها إذ وبتأثير من أفكار الحزب القومي السوري الذي انتمى إليه في بواكير شبابه أراد كتابة شعر سوري مسيحي، وكانت التوراة مرجعه اللغوي والفكري، التوارة بإحدى ترجماتها الأمريكية الأكثر شيوعا والتي أطراها صايغ واستعمالات المفردات العربية المحددة دون غيرها في هذه الترجمة. كما ذهب في فصل كامل لمراجعة تجربة صايغ اللغوية التي هناك من رأى فيها جديدا، ولكنه لم يجد هذا وسجل كل مؤاخذاته عليها، وملاحظاته هنا على غاية من الأهمية. ويقرأ مقالا نشره صايغ في مجلة الجامعة الأمريكية ببيروت على ثماني حلقات تحت عنوان (التوراة كأدب) مسجلا عليه ملاحظتين أولاهما: (ان صايغ تجاهل تاريخ التوراة، والكيفية التي جرى بها تأليف نصوصها، والشكوك التي حامت حول أصول تلك النصوص وحقيقة مؤلفيها) وثانيتهما: (إنه أهمل أثر الاداب القديمة في التوراة نفسه وفي نصوصه الأدبية وفي مقدمتها الاداب العراقية والمصرية والكنعانية). وعندما يحاول المؤلف أن يحوصل قراءته لشعر صايغ في خاتمة بحثه هذا يجد انه كان (مسيحيا متدينا شديد التمسك بالعقيدة المسيحية البروتستانتية، ولذا قرّر بوعي واصرار أن يكتب شعرا مسيحيا خالصا بأوراق فنية مسيحية خالصة). ويذهب في هذا للقول: (إذا كانت العقيدة المسيحية الموجه الأول في شعره فإن التوراة كانت الموجه الثاني فقد كان مشبعا بنصوصها وقصصها وشخصياتها ومناخها منذ طفولته وبحكم نشأته في أسرة متدينة). كما يجد المؤلف ان الموجه الثالث هو (الشعر الديني الانقليزي فقد اتخذ منه دليلا لكتابة شعر حديث يتلاءم وعقيدته المسيحية ويعبر عن انشغالاته الدينية) وذكر أسماء الشعراء الذين أثروا فيه في هذا الوجه وهم (ت. س. اليوت/ جيرارد مانلي هوبكنز/ جون دنّ/ ريتشارد كراشو/ ر. س. توماس). وبعد تساؤل يجيب المؤلف: (إن تحدثنا عن شعر مسيحي في الشعر العربي فلا بدّ من أن نعد صايغ الرائد الأول فيه). هذا كتاب لم يظلم صايغ بل قام بموضعته في الساحة الشعرية العربية، ويستحق عمله هذا العناية والاهتمام بل والاكبار لما بذله من جهد في نشدان قراءة متمعنة متأنية ومنصفة لهذا الشعر تعطيه ما له، ولا تأخذ شيئا مما له. صدر الكتاب من منشورات رياض الريس 2009 في 258 صفحة.