بين متمعش من التراث ومحافظ على هذا التراث مسافة كبيرة جدا عنوانها احترام جهد السابقين المبدعين وتكريمهم أمواتا بعد أن مرّ بعضهم مرور الكرام أحيانا... يبقى زياد غرسة بلا شك واحدا من الذين آمنوا بالتراث الموسيقي التونسي كنبع لا ينضب لمحاربة إفساد الذائقة العامة ولهذا السبب نجح وأحبّه الجمهور الواسع والعريض وآمن بمشروعه الفني. مؤخرا زار زياد غرسة سوسة وقد التقيناه في هذا الحوار حول واقع الاغنية التونسية. كانت لك جولة في مهرجانات المدينة بعرض عنوانه «البيانو»... ما الذي يميّز هذا العمل؟ العنوان الاول لهذا العرض كان «البيانو العربي»... مميزات هذا العمل فنية بحتة تكمن في الترابط بين مختلف المقامات التونسية والانسجام بينها وبين الآلات الموسيقية الموظفة والأغاني والأصوات التي جسّمتها...لقد خرجنا عن المألوف والسائد هذه المرة خاصة من حيث الآلات الموسيقية، فالعمل ارتكز على الارتجال واعطاء حرية أكثر في العزف طبعا في اطار مدروس وموظف فنيا لم نحد فيه عن البرنامج المسطر. لكنك أضفت أغنية «المقياس» وهي خارج برنامجك الفني المقرر؟ كان ذلك بإلحاح من الجمهور الذي اضطرّني الى غناء المڤياس فأردتها هدية مني اليه. لماذا كان الاختيار على سارة النويوي ومحرزية الطويل في عرضك هذا؟ لم يكن هذا الاختيار من فراغ، فبيني وبين سارة ومحرزية «عِشرة» موسيقية طويلة وهما تتمتعان بإمكانيات صوتية جد طيبة وقد تأقلمتا مع خصوصيات هذا العرض وعكستا انسجاما كبيرا اضافة الى أنهما ابنتا الرشيدية... هناك الكثير من الاصوات لكن الانسجام يصعب توفيره فهو لا يأتي الا ب«العِِشرة» والمداومة وعمق التكوين، وإن شاء ا& يأتي يوم نكوّن فيه نواة هامة من الاصوات ونخرج العديد من الأغاني الى النور وأنا مستعد لذلك خاصة مع الأصوات الشابة. هل تشعر بالمنافسة؟ هذا سؤال محرج... (يفكّر...) وا& «آش باش انقلك» ما نعرفش يظهرلي كل فنان يخدم على روحو، «أنا نخدم على روحي» ما عنديش منافسة، ثمة نوع معين نخدم فيه على روحي» (يتحمّس أكثر ويصرّ) ما ثمّاش منافسة». اهتممت في فترة ما بالفن الشعبي من خلال تعاملك مع الهادي حبوبة وإعادة توزيع احدى الأغاني الشعبية واختلفت الآراء حول ذلك، كيف تفسر هذه التجربة إن صح التعبير؟ أول من شجعني على الفن الشعبي هو أبي المرحوم الطاهر غرسة الذي لحّن لي وايضا لعائشة ولدرصاف الحمداني وللهادي حبوبة الذي تربطني به علاقة متينة وأعتبره رائد الفن الشعبي الراقي. لقد لحّن له كبار الملحنين وألّف له كبار الشعراء، بن جدّو، رضا الخويني، صالح المهدي، محمد التريكي، الطاهر غرسة، ولي شرف التعامل مع حبوبة، حيث قمنا بإحياء أغنية «روّح مالسّوق عمّار»... قمت بتوزيعها بالوتريات، وأعطينا فكرة أخرى عن المزود في هذا العمل لا تجد كلمة هجينة ولا عزفا عشوائيا، ولو تتمعّن في الكاسات ككل ستجد بحثا واجتهادا أعتقد أنه جدير بالدراسة والمتابعة... قد يكتب فيه الكثير. هل طالت النزاعات الفنية زياد غرسة من خلال أغنية روّح مالسوق عمّار؟ هذه أمور تتجاوزني.. كنت موزّعا فأعطيت لحنا وشاركت في الغناء، وساهمت بفكرة موسيقية لست مالكا للكاسات، أمّا بقية الخلفيات لا دخل لي فيها، أنا متأكّد أن الحكاية ستنتهي وسيتفهمون الحقيقة... الأمور بالنسبة لي فنية بحتة والباقي لا يهمّني... كل ما قيل «موش صحيح». تتميز عروضك الموسيقية عادة بالحضور المكثف للجماهير كيف تفسّر ذلك في خضمّ اختلاط الأذواق وانحدار بعضها؟ أشبه الأمر بالأكلة اللذيذة اذا تذوّقها الانسان فسيتشبث بها كذلك الأمر بالنسبة للموسيقى الأصيلة. لكن كيف ترى المفارقة الحاصلة بين جمهور يواكب الفن المبتذل وفي نفس الوقت تجد البعض منه يواكب العروض الراقية؟ أؤكد لك أن جمهورنا بخير، لا ينقصه شيء، ففيما يخصّ الشباب أنا ضد القول بأن الشباب غير واع... فالانسان في حاجة الى الترفيه فهناك الذين يذهبون الى المهرجانات لهذه الغاية لا غير أي ليصيحوا ويرقصوا «يحبّوا يشيخو» ولكن عندما يبحث الواحد منهم عن ذاته لا يجدها الا في التونسي فيتأقلم مع الموشح والغناء الأصيل والارتجال. بصفة عامة لا ينضج الذوق الا بعد مدّة زمنية طويلة... بعد 30 أو 35 سنة حتى في مجال الكتابة فالانسان لا يصل الى مرحلة النقد والتذوّق الحقيقي الا انطلاقا من الاربعين أي بعد أن تتشبّع أذنه فنّا ويتربى ذوقه، للأجيال السابقة تعلق بأنماط معينة ففي الستينات مثلا كانت أنماط موسيقية مرفوضة، اليوم تجدهم يفتخرون بتلك الحقبة فيعدّدون ابداعات علي الرياحي والهادي الجويني والجموسي وغيرهم... كذلك جيلنا الحالي ستجد في المستقبل من يتحدث عن لطفي بوشناق وزياد غرسة، هذه سنّة الحياة الجمهور التونسي «فرايجي» اللّي يجي يقلّوا مرحبا «يشيخ معاه ويعمل جوّ» ولكن اذا أحسّ بعيوب ذلك الفنان فلن يعود اليه والدليل أن عدّة أصوات هذه السنة لم تجد تجاوبا مع ذلك الجمهور لا فائدة في ذكر الأسماء التي كانت في فترة ما نجوما ولكن بان إفلاسها وفراغ جعبتها. كيف تصف التجارب التي يحرص أصحابها على إحياء التراث وتهذيبه؟ التراث ملك للجميع، وبالنسبة لي محاولات التهذيب تبقى أحسن من انتاج أغان نحن نرفضها خلّيهم «يخدموا» في التراث وغيره فبعد كل شيء «يتفرز وما يبقى في الواد كان حجرو». هل سنرى زياد غرسة على رأس إدارة مهرجان الأغنية التونسية في نسخته الجديدة؟ (يتحمّس ويصرّ) لا، لا... أنا من أصلي مانيش مجعول باش انكون إداري لا تكويني الجسدي ولا الفكري وكل شيء فيّ يسمح بذلك. لكنك تواجدت في لجنة التحكيم؟ كانت دعوة من السيد وزير الثقافة وسنيا مبارك، وأردت خوض التجربة للاطلاع وأتمنى أن يتطور هذا المهرجان وكذلك بعض العقليات، شخصيا سعدت لإيقاف مهرجان الأغنية... لن يستقيم حال المهرجان إلا باستقامة حال الموسيقى... لم لا يصبح مهرجانا للأغنية العربية؟ كنت عرضة لعدّة انتقادات بعد مشاركتك في لجنة التحكيم كيف تقبّلتها؟ كانت لي تجربة مفيدة لكني أكتشف مرض بعض العقليات، ا& يسامح من أساء لي... وربّي يهديه.