ما كان لتقرير القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون بشأن العدوان الصهيوني على قطاع غزّة أن يحدث تلك الضجة السياسية الفلسطينية والعربية لولا قدرة صاحبه على الجمع بين الحقّ والباطل في آن , ولولا حنكة كاتبه في التوأمة بين المتناقضات في مقام واحد . مفارقات ,ما كان لها أن تتسرب إلى صفحات التقرير الأممي لولا تجذّرها في شخصيّة ريتشارد غولدستون التي تسطع صفحات حياته بأنّه "نصف عادل,,,نصف جائر"... لم يخطر ببال المتخرج الشاب من جامعة "ويتواترسراند" للحقوق في سنة 1962 أن تناط بعهدته في يوم ما مسؤولية محاسبة المجرمين الصّهاينة وملاحقة سفاكي الدماء في كلّ من رواندا ويوغسلافيا وهو الذي لم ينبس بكلمة احتجاج طوال الاستعمار الإنقليزي , ولم يعرف له تاريخ نضالي ضدّ سياسة الميز العنصري التي انتهجها الحزب الوطني منذ 1948 وإلى حدّ 1990 . التذبذب بين التنظير والتطبيق وطوال تلك الفترة ,كان ريتشارد غولدستون متذبذبا بين المبادئ القانونية الساعية إلى إقرار المساواة والعدالة بين مواطني جنوب إفريقيا ونهج التفرقة العرقية الذي صيّر زهاء 30 مليونا من السود عبيدا لدى 4 ملايين من البيض , ذلك أنّ اشتغاله في مهنة المحاماة وتبوؤه لمنصب المستشار القضائي في محكمة جوهانسبورغ عام 1976 قبل أن يصبح قاضيا للمحكمة العليا في 1980 , لن تطمس شيئا من معالم الحقيقة في أنّه كان شاهدا على تجاوزات تشريعية وسياسية كان حريا له أن يكون لها قاضيا ومنددا . تجاذب قوى الإنصاف والجور لدى الرجل لم تبرحه حتّى بعد انقشاع سحب التمييز العنصري عن سماء جنوب إفريقيا , ففي نفس الظرف الذي أنيطت بعهدته مهمّة تفسير الدستور الجديد للبلاد والإشراف على الانتقال السلس من نير الاستبداد نحو الديمقراطية كان غولدستون يؤدي زيارات متتالية إلى اسرائيل لا باعتباره قاضيا يهودي الديانة صهيوني الهوى فقط وإنّما باعتباره رئيسا لجمعية أصدقاء الجامعة العبرية في القدسالمحتلة لمدّة تجاوزت الربع قرن . زيارات لم يمنعها قرار المحكمة الجنائية في لاهاي بالتأكيد على أنّ الجدار العازل يناقض القوانين الدولية ولم يقطع تواترها أخبار وصور عن انتهاكات ومجازر صهيونية هي في عرف فقهاء القانون جرائم حرب... درس فلسطيني صرف كبر الهوى الصهيوني رويدا رويدا مع صاحب السبعين خريفا ,إلى درجة أنّه استبعد أن يتولّى في يوم من الأيام مسؤولية التحقيق في الجرائم الإسرائيلية,,,فالتقصي عن حقيقة الجلاد تقف _حسب القاضي- عند يوغسلافيا وروندا(1994-1996) وكوسوفو(1999-2001) وقد تتجاوزهم قليلا لتبلغ درجة التحقيق في فساد مرتبط ببرنامج النفط مقابل الغذاء (2004) ولكن لا يمكنها البتة الوصول إلى مرتبة البحث في جرائم إسرائيل بحق الشعوب العربية . فكانت بذلك غزّة الرجة النفسية والفكرية والتاريخية والقانونية التي أوقفته عند معدن المحتل وجوهر الغاصب , فكانت غزّة واقعا لا صورة ومثالا ملموسا لا خبرا يقوّض الديباجات الإسرائيلية عن كونها واحة الديمقراطية في غابة الأحراش والوحوش ,,,عندها فقط حبست شهقة غولدستون عند التراقي وانحسرت الخيارات أمامه فإمّا أن يكون شاهد زور صرف وإمّا أن يكون مخلصا مع نصف قرن من الدراسة والمهنة القانونيتين , وكما كلّ مرّة أختار أن يكون "شبه شبه" فاتهم "حماس" المقاومة وإسرائيل المتغطرسة بارتكاب جرائم حرب خلال عدوان غزّة زاعما أنّه لا يناقش شرعية "الحرب على القطاع " وإنّما يقيّم "وسائل دفاع إسرائيل" عن نفسها ,,على حدّ ادّعائه . وعلى الرغم من حيف التقرير وظلمه لحركات المقاومة الفلسطينية ,وعلى الرغم من تبريره للحرب الصهيونية على غزّة فإنّه بات المسؤول الأممي الوحيد الذي تجرّأ على فتح عين واحدة منصفة وصادقة.. لا يمكننا الجزم بأنّ غولدستون تحوّل بعد تقريره إلى مناصر للقضية الفلسطينية , ذلك أنّه صرّح أكثر من مرّة أنّه عمل لصالح إسرائيل في أكثر من مجال , كما لا يمكننا النفي بأنّ مدى الدمار اللاحق بالقطاع وحجم الفاجعة التي حلت بأهله فرضا تغييرا على مستوى تصوّره لإسرائيل . درس غزّة لغولدستون كان بليغا جدّا ومؤلما للغاية... بليغ في تحريكه لمسلمات «يهودية تلمودية صهيونية» عن الأرض والاخر وعن "حقّ الرجوع بعد الشتات" ومؤلم لشيخ تجاوز السبعين خريفا ولم تعلمه السنون الطويلة وتجارب الإنسانية الالتزام بموقف واضح والتمسك بمبدإ واحد في الوقت الذي أبرم فيه الطفل الفلسطيني رأيه وسطّر منتهى حياته منذ يومه ولادته الأوّل ومنذ رميه بحجارته الأولى ...