لاشكّ في أهميّة المعلومات التي توفّرها لنا الكتب التي تعنى بالتوثيق والإحصاء وحصر المنجز الذي تمّ تحقيقه في مجال من المجالات. وعلى الرغم من أهميّتها العلميّة التوثيقيّة فإنّ هذه الكتب نادرًا ما تكون شيّقة أو مغرية بالقراءة، فهي لا تهدف إلى شيء من ذلك بل قد لا يكون ذلك مطلوبًا منها أصلاً. من ثمّ تميّز الكتاب الذي نحن بصدده، والذي نجحت صاحبته في جعله وثيقة شيّقة وكتابًا مكتمل الشروط، يوفّر إلى جانب مادّته التوثيقيّة الإحصائيّة، مادّة للقراءة الممتعة. الكتاب هو «كتاب الترجمة في بيت الحكمة» الصادر سنة 2008 بإمضاء آمال موسى. وفيه إحصاء وثبت بالأعمال التي أنجزت في مجال الترجمة، في نطاق المؤسّسة الوطنيّة للترجمة والتحقيق والدراسات من 1983 إلى 1992، ثمّ في نطاق المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ابتداءً من سنة 1992. مع مقدّمة تختصر قصة الترجمة في الحضارة العربيّة بإفريقيّة التونسيّة. إضافةً إلى فهرس للمؤلّفين وفهرس للمترجمين ثريّين بالمعلومات الكفيلة لوحدها بجعله جديرًا بالقراءة، فماذا حين ننظر في خلاصات الكُتب المترجمة؟ وهي النقطة التي أريد التنويه بها بشكل خاصّ. لنأخذ على سبيل المثال من بين الأعمال التي تُرجمت في نطاق بيت الحكمة، كتاب «نظريّات المعرفة التاريخيّة وفلسفات التاريخ في العالم الغربيّ»، وهو عبارة عن مختارات مُعرّبة بإشراف وتنسيق الدكتور الهادي التيمومي. في العديد من المنشورات التوثيقيّة يُكتفى بذكر عنوان الكتاب واسم المترجم وتاريخ النشر إلخ...أمّا الكتاب الذي نحن بصدده فهو يمنحنا فرصة للاطلاع على جانب مهم من سيرة الدكتور التيمومي وعناوين مؤلّفاته العديدة، كما يمكّننا من الدخول إلى الكتاب المُترجم، عن طريق تعريف مفصّل يضع الكتاب في محوره من إشكاليّات كتابة التاريخ اليوم والدور المنوط بعهدة المؤرّخ الراهن، ويقدّم لنا فكرة عن محتوى الكتاب وأهمّ تيّارات علم تاريخ اليوم التي رصدها إلخ...وهو منهج معمّم على قرابة الخمسين كتابًا دون أن ننسى طبعًا بعض الوقفات عند خطّة الترجمة وآفاقها ومدى وعي بيت الحكمة بالنقائص ومدى حرصها على المزيد من التميّز عن غيرها من المؤسّسات. فقد يذهب الظنّ بالبعض إلى أنّ الخطوط الفاصلة بين بيت الحكمة والمركز الوطنيّ للترجمة غير واضحة المعالم في مجال الترجمة تحديدًا. إلاّ أنّ من مزايا هذا الكتاب أنّه يقدّم للمتابع المادّة الكفيلة بجعله يفهم أنّ تعريب العلوم والآداب من مختلف لغات العالم وثقافاته هو قطب اهتمام بيت الحكمة، بينما قد يكون قطب اهتمام المركز الوطنيّ للترجمة نقل آدابنا وعلومنا إلى مختلف لغات العالم دون أن يمنعهما ذلك من التكامل، ومن السماح باستثناءات لا تفسد للاختصاص قضيّة. في هذا السياق يبدو أنّ الفريق الساهر على الترجمة في بيت الحكمة قد أحسّ بضرورة التكثيف من ترجمة المادّة العلميّة التي تفوّقت عليها حتى الآن المادّة الأدبيّة. كما أنّه شعر بضرورة الخروج من دائرة اللغة الفرنسية والانفتاح أكثر على اللغات العالميّة الأخرى كالإنقليزيّة والإسبانيّة والألمانيّة والروسيّة والصينيّة وغيرها. إضافة إلى المزيد من التركيز على الترجمة من اللغات الأصليّة مباشرة. فالترجمة عن طريق لغة وسيطة قد تكون حلاًّ مؤقّتًا ضروريًّا في غياب مترجمين يمتلكون اللسانين، لكنّها لا تعدو أن تكون «قبلة من وراء زجاج». وبعد فهذا كتاب وثيقة عرفت صاحبته الشاعرة آمال موسى كيف تخرج به من دائرة التوثيق والجدولة المحض إلى مجال أرحب وأخصب، جاعلة منه مادّة شيّقة صالحة للقراءة ولطرح أسئلة الترجمة والثقافة بشكل عامّ. ولعلّ أفضل ما يُختتم به نصّنا هذا عبارةُ الدكتور عبد الوهاب بوحديبة حين قدّم للكتاب فقال: «...وأودّ في الختام أن أنوّه بمجهودات الأديبة الباحثة آمال موسى التي أعدّت هذا الكتاب المرجعيّ وأثرته بدراسة زاخرة بالتحليلات الضافية والمعلومات الغزيرة والمفيدة. »