لا أحد يستطيع أن يعلم، كيف استطاع الرئيس الامريكي باراك أوباما، أن يلغي قرارا كان قد اتخذه، وأن ينقلب على موقف أعلنه، وأن يتراجع عن مبدإ، جعل منه احدى أبرز وسائل تحقيق السلام. فبين ليلة وضحاها، وبطريقة مباغتة، وبأسلوب مفاجئ، تراجع عن ضرورة إلتزام اسرائيل بتجميد الاستيطان، بل وأصبح يشجّعها للمضي فيه، والأنكى أنه أصبح يعتبر ما تقوم به اسرائيل استيطانيا تنازلات غير مسبوقة. عندما زار أوباما تركيا ثم مصر موجّها خطبا رنّانة للعالم الاسلامي، ومؤكّدا على علاقات متميزة بين الطرفين، وداعيا لعهد جديد من التعاون المشترك والاحترام المتبادل، قامت أصوات تقول إن الرئيس الامريكي الجديد يبيع الريح، ويسوّق للأوهام، ويروّج لخيالات وأكّدت أنه لا يجب تصديقه، ولا يحل مجاراته، حتى نرى كيف سيتعامل مع كل الملفات المطروحة، وأوّلها ملف الصراع العربي الاسرائيلي. وقالت تلك الاصوات إنه سوف يفشل، وأنه لا يؤمن أصلا بقدرة الادارة الامريكية على التأثير في اسرائيل، بل ولا يرى له فائدة. وتمنت تلك الاصوات ان تكذّبها الايام، وأن ترى على الأرض وفي السياسات ما يثبت عكس ما ذهبت اليه، وما يدعم تلك الصورة الجميلة التي حاولت أن تترسّخ في أذهان العرب والمسلمين من السيد باراك أوباما. الآن، وعند أول امتحان تبيّن ان تلك الاصوات كانت على حقّ، وأن نبرة عدم ثقتها في الرئيس الجديد كانت تستند الى قناعة صادقة، والى رؤية ثاقبة والى تحليل صائب. فها هو أوباما ينقض عهده، وينقلب على مواقفه، بدون ذرّة لحياء، أو وخزة لضمير. بل إنه يتعامل مع ملفات مصيرية، تعامل الجبابرة الأشداء الذين يكرّسون الباطل، وينتجون الظلم، ولا يهتمون بل ولا يأبهون أصلا للعدل والقانون والقسطاس. إن تراجع إدارة أوباما عن مواقفها السابقة، فيه ضحك على الذقون، وتجاوز للاخلاق والأعراف، واستهزاء بالشرعية. ومع ذلك مازالت هذه الادارة تتحدث عن حقوق الانسان وعن الديمقراطية وعن التعددية في الفضاء العربي الاسلامي، وهي تظنّ أنها بمثل هذه الألاعيب، يمكن أن تصدّقها النخب وأن تلتفت إليها. فإذا كانت تلك الحقوق غالية حقا، فلماذا يحرم منها الشعب الفلسطيني ولماذا يستثنى منها، ولماذا تهدر مقدّساته، ويداس على كرامته الوطنية والدينية، وتستباح أراضي ذلك الشعب، ومنازله، وممتلكاته، تحت أعين أقوى وأعتى قوة في العالم. ولماذا يحرم من أبسط حقوق الانسان، كالتعليم والصحة، وحرية التنقل، بل والبقاء على قيد الحياة كأي كائن؟ لقد أفرغت الادارة الامريكية مضمون حقوق الانسان من كل معنى، وجعلت من الديمقراطية مجرّد كلمة يتندّر بها، ومجرّد كلام ممجوج فارغ المحتوى بل ومطية لأكاذيب، ولابتزاز رخيص تمارسه في كل مرّة مع طرف ما، ولمسكّنات يتناولها رموز النخب السياسية والمدنية التي مازالت تعتقد في حنوّ وعطف وزارة خارجية إدارة البيت الابيض، ذات المقدرة الكبرى على تسريب الأوهام، وافتعال التعاطف مع «المقموعين»، وادعاء الغيرة على الديمقراطية.