(1) فارقنا منذ ايام الفنان الكبير الزبير التركي الرسام والنحات الفذ وكان وجها ثقافيا رافق أجيالا من المبدعين وكان لهم وله شرف تشكيل ملامح ثقافة وطنية في السنوات الاولى من فجر الاستقلال. فالزبير التركي اشتغل علاوة على فن الرسم في مجال الفن المسرحي بوصفه مصمم مناظر. كما انه تقلد مهام الاشراف على ادارة الفنون الجميلة بوزارة الثقافة، وعمل لسنوات طويلة مستشارا للثقافة لدى العديد من الوزراء ... والزبير التركي كان رجلا فطنا ذكي القلب حاضر البديهة، لطيف المجلس لم يكن أحد يشقى بلقائه. (2) والزبير التركي يبقى أولا وأخيرا ذلك الرسام الذي اختزل في «تصاويره» حياة مدينة بأكملها هي مدينة تونس و التي كان له معها رحلة عشق ثبتها الرسام في رسومه وجعل شخوصها تخاتل الزمن بحبورها وسخريتها، فكان بذلك رحيل الزبير التركي رحيل قوم بأكمله، انه رحيل فرد بصيغة الجمع. (3) ولكن على قدر ما كان هذا المبدع المؤسس تكون أهمية السؤال : ماذا بقي بعد زبير التركي ؟ والجواب لا شيء كثيرا. فالفن التشكيلي بالرغم من نصف القرن او يزيد من الممارسة والحضور لم يتغلغل التغلغل الكافي في عاداتنا الثقافية وحياتنا اليومية ولم يصبح فنا جماهيريا يساهم في الرفع من الذوق الجمالي العام. والفن التشكيلي رغم عمره الذي جاوز القرن من الزمن في بلادنا لم يتخط بصورة فعلية الحدود البلدية لبعض مدننا الكبرى وبقي حكرا على بعض «العرّيفين» والميسورين والمتسلّين بهواية جمع الأعمال الفنية مما حدّ من نفاذ وفاعلية الفن التشكيلي في حياتنا. ورغم العدد الوفير من المبدعين التشكيليين وقيمة ما ينتجونه من أعمال فان الفراغ بقي كبيرا في مدننا اذ لم نر ميلاد حركية فنية تملأ الساحات ألوانا وأشكالا، ولم نشهد اعمالا ذات بال نحتا كانت او جداريات تنتصب في ساحاتنا العمومية لتدل علينا وتؤرخ لأحداثنا. بل ولعل الأخطر من كل ذلك أننا لا نملك الى اليوم متاحف وطنية عمومية او خاصة تؤمها جماهير هذا الفن وتربط بين مختلف أجيال المولعين بالثقافة والمنتفعين بأنوارها. (4) ان الفن في جوهره مهدد دائما بالنسيان وحياته في عهدة الأحياء اللذين يسهرون على ضمان ديمومته وتواصل تأثيره ضمن صيرورة تواصل الحياة والحضارة لذلك كان دور المؤسسة التربوية أساسيا في تأنيس الناشئة بالفن والثقافة وتعميق وعيها بأهميتها وتسهيل قيام الألفة بين المواطن المستقبلي وبين صيغ الذوق والجمال. (5) الفنان يموت حين يُنسَى ، فالنسيان موته الثاني والزبير التركي رحمه الله ادرك ذلك. فأصرّ على إقامة متحف خاص به لعل من المستعجل الآن ان يفتح ابوابه لاستبقاء ذاكرته وحضوره ... في انتظار ان يتأسس المتحف الوطني التونسي للفنون التشكيلية، وانقاذ قرن من الأعمال من رطوبة المخازن. والمتحف الأحيا والأنجع والأبقى هو بلا شك الممارسة بوصفها تقاسما للمحسوس.