عندما نطلع على البرمجة المسرحية خلال أيام السنة، نجد أن أغلب العروض مألوفة لدى الجمهور، فهو غالبا ما يذهب الى المسرح للاستمتاع ولا يريد متعة فيها كلفة وعناد وإنما ينتظر من تلك البرمجة لذة يسيرة بعيدة عن عناء التفكير والتأمل والقراءة والتأويل ممزوجة بالراحة والترويح عن النفس. أما عندما ينتظر ملتقى وطني أو مهرجان إقليمي أو تظاهرة دولية فالأمر يختلف تماما، ولنتوقف قليلا عند حدث بحجم أيام قرطاج المسرحية. المسرح مدرسة وما أعظم شأنها من مدرسة، فهي خطاب حي ومباشر ومتكافئ بين طرفي اللعبة الباث والمتلقي «حوار وتحاور مكاشفة مطارحات تحسيسي.. لا تحريض رسالة وإيحاء دور مباشر.. مثل هذا المسرح لا يخلو من جمالية ومتعة، لكنهما ذات نكهة مغايرة لا بدّ للمتفرج من استجماع القوى الذهنية واكتساب القدرة على التركيز مقابل ما يتحلّى به الفنان من صرامة ودقة في الأداء وبدل ما يملك من طاقة للتعبير.. فالتثقف سمة قوية ومشتركة بين الباث والمتقبل واستعداد جاد للتثاقف بينهما، وهو ما يعني أن كل منهما جنّد نفسه للقاء الآخر، الفنان (مؤلف وممثل ومخرج وتقني..) أرّقه البحث في صياغة خطاب طريف يحمل الاضافة أما المشاهد فهو يحاول قصارى جهده تتبع ما يجري في الساحة المسرحية وما يجدّ فيها من إبداع وتطور بما أهله لاسيتعاب العرض ومناقشته. وأيام قرطاج المسرحية طرحت على الركح ألوانا من الفرجة ومستويات متفاوتة من الخطاب الجاد والأداء الجيد بما جعل الجمهور يختبر مدى ثقافته وحدود إلمامه بأصول الفن المسرحي ومتغيّراته بين عصر وعصر وبين مصر ومصر على مدى تاريخه لدى شعوب مختلفة وثقافات متعددة. لقد اكتشف الجمهور منذ ما يزيد عن ربع قرن عوالم المسرح في عالم واسع وفضاء شاسع فنهل من معين الفرجة الراقية من الشرق والغرب رغم أنه مهرجان عربي إفريقي أساسا، فتوافدت الفرق من القارات الخمس وإن كانت مسارح كثيرة ما تزال مجهولة نخص بالذكر منها، على سبيل الذكر لا الحصر: إفريقيا الأنغلوفونية أوروبا الشرقية أمريكا الجنوبية وآسيا الواسعة الشاسعة.. إن ميزة أيام قرطاج المسرحية أنها مدرسة المثاقفة بامتياز أي التقاء الفنانين والخبراء الوافدين من مدارس وممارسات مسرحية مختلفة كل يريد أن يحسّس الآخر الى مدى ما تكتسبه تجربته من عمق فكري وبعد جمالي وحوار ثقافي هدفه التواصل مع الآخر. إن هدف هذا التواصل إشاعة مزيد من الأمن والحب والعدل مقابل الكف عن القمع والكراهية والجور في عالم لا يهدأ فيه موج الطغيان والعدوان. الإسهام الآخر لتلك الأيام، فهو حفز همم المتخلفين عن ركب الإبداع الأصيل لمزيد البحث والاجتهاد والاطلاع من خلال معاينة نتاج الآخر والاستفادة من خبرات المشاركين والقدرة على النقد الذاتي والتخطيط للرسكلة والتكوين والبحث عن مسالك إبداعية جديدة. وأما الأستاذ الكبير في هذه المدرسة فهو ليس طرفا واحدا إنما هو الشراكة بين كل الأطراف: اللعبة والجمهور بالخصوص، فأية مدرسة أخرى تكون قادرة على مثل هذا الاستقطاب والتفاعل الخلاّق؟ ألم تر كيف أن مدرسة الفرجة في أيام قرطاج المسرحية ليست مدرسة منحصرة أو مقصورة على الاخراج أو التثميل أو المشاهدة كما نظّر لها المنظّرون منذ القرن الماضي لمّا وضعت «أني إيبرسفالد» كتابها الشهير «مدرسة المتفرج»!؟