يحلو لبعض الدوائر التي استبدّ بها الحنين الى الحقبة الاستعمارية المظلمة ان تتبارى في إعطاء الدروس والمواعظ الى الدول النامية في مجال الحريات وحقوق الانسان.. لكن حنينها الى عهود الاحتلال البغيض عادة ما يغلبها ليدفعها دفعا الى محاولة استهداف سيادة الدول واستقلالها ومحاولة مصادرة قرارها الوطني مستعملة قيما كونية في نبل حقوق الانسان مطية لتحقيق أهدافها وغاياتها الخفية.. في مواجهة نظرة الاستكبار هذه انبرت عديد الدول مدافعة عن تجاربها وعن خياراتها وكذلك عن سيادتها وقرارها المستقل.. وفي طليعة هذه الدول نجد بلادنا تونس التي طوّرت مشروعا مجتمعيا ناهظا ومتطوّرا ومتوازنا.. يقوم على إشاعة أنوار التنمية في كل الربوع وجعلها حقا متاحا لكل الفئات والجهات.. ويقوم كذلك على بناء تجربة ديمقراطية تعددية تضمن تعايش كل الآراء والطروحات وترسخ حقوق الانسان في مضامينها وأبعادها ومعانيها الشاملة... دون انتقاء او تفريق بينها وبعيدا عن أية ازدواجية في المكاييل او توظيف للقيم والمبادئ والأفكار الكونية في خدمة أهداف أو غايات أو مكاسب سياسية.. ولقد نجحت هذه المقاربة التونسية في كشف النوايا الخبيثة وفي تعرية الأهداف الخفية والحقيقية للحملات المسعورة التي تشنّ من حين لآخر لأسباب واهية وتافهة.. تركب في ظاهرها مسائل تتعلق بحقوق الانسان لكن مراميها خبيثة وهي أبعد كثيرا من الأهداف المعلنة وتصبّ في خانة السعي لمصادرة قرارنا الوطني وتحويلنا الى تلاميذ يتلقون الدروس والمواعظ من أشخاص وجهات عاودها الحنين الى عهود الاحتلال... تلك العهود التي دفع آباؤنا وأجدادنا ضريبة الدم لإنهائها وكنس المحتل من أراضينا وإعلاء رايات الحرية والاستقلال في ربوعنا.. وما دام هؤلاء يتظاهرون بالتباكي على الحريات وحقوق الانسان في المنطقة العربية بالخصوص لأهداف لا تخفى على أحد فإننا نعيد نفس الكرة الى ملعبهم من خلال التمسّك بشمولية حقوق الانسان... بما فيها حق الشعوب العربية التي خضعت للاحتلال البغيض ومنها شعبنا التونسي الذي عانى ويلات الاحتلال ودفع ضريبة باهظة لاسترداد حريته وكرامته، في الاعتذار عن حقبة الاحتلال وفي تلقي تعويضات مجزية عن الدمارات التي أحدثتها والمآسي التي خلّفتها.. ذلك ان الاعتذار والتعويض يقعان أيضا في صميم حقوق الانسان... ومن حق شعوبنا أن تحصل على اعتذار علني وصريح من محتلي الأمس يضمّد لها جراحاتها وينصف كرامتها المجروحة.. ومن حق شعوبنا أيضا الحصول على تعويضات مجزية تساعدها على مداواة الآثار المدمّرة لتلك الحقبة السوداء.. وفوق هذا، فإن الاعتذار والتعويض من شأنهما ان يقطعا الطريق على الجهات التي غلبها الحنين الى تلك العهود المظلمة والتي تتخذ من الحريات ومن حقوق الانسان مطية لتحقيق هذه الأهداف.. فالمبادئ الكونية واحدة، لا تتجزأ.. وعلى محتلي الأمس أن يعملوا على تنقية أوراق ماضيهم الحالك من خطايا الاحتلال البغيض.. قبل أن يحاولوا إعطاءنا مواعظ ودروسا مردودة عليهم.. والضحك على ذقون شعوبنا بهذه البضاعة الكاسدة.. فليعترفوا بجرائمهم أولا.. وليطلبوا الصفح... وليدفعوا التعويضات للضحايا.. عساهم يستردون شيئا من مصداقيتهم.. وعساهم يخرجون عن سكة أجدادهم الذين جاؤوا ايضا ببضاعة شبيهة تحت عناوين «نشر قيم الرجل الابيض» و«واجب الأجناس العليا إزاء الأجناس السفلى» و«تمدين المجتمعات المتخلفة».. وهي بضاعة زجت بشعوبنا في عقود طويلة من العسف والنهب والتقتيل... مازلنا نعاني مخلّفاتها الى الآن.