«رفضت اعتلاء منابر الشيطان لشتم بلادي».. عبارات قليلة قد تكون خفيفة على اللسان، لكنها ثقيلة في الميزان، عميقة في مضامينها، بليغة في معانيها.. وفوق كل هذا هي عبارات تصلح لتكون درسا وجب على جميع التونسيين والتونسيات أن يحفظوه عن ظهر قلب.. وعلى وجه الخصوص أولئك الذين ألفوا «نضال السفارات» والدوائر الأجنبية وباتوا لا يترددون في الاستقواء بالأجنبي على بلادهم.. غير عابئين بصورتها وبفظاعة الخطيئة التي يرتكبونها في حقها.. وذلك إما لهثا وراء موقع أو وراء حفنة من «الدولارات أو اليوروات». ومن هنا يكتسي كلام المخرج يسري بوعصيدة في حديثه ل«الشروق» (السبت 5 12 2009 ص 24) أهميته ويستمد الدرس الذي أعطاه لمحترفي النضال مدفوع الثمن بلاغته.. أن يكون لأي شخص فكر معارض.. أو وجهات نظر مختلفة أو طروحات مغايرة.. فذلك أمر معقول ومقبول.. وهو في كل الحالات إضافة وإثراء.. وهو حراك سياسي يبقى ضروريا لدعم الموجود وتحصيل المنشود وتدعيم التجربة.. لكن حين تغيب المعارضة النزيهة التي تنطلق من الوطن وتعود إليه.. وحين يصل الجدل بالبعض وإضمار الإساءة حدّ المساس بكرامة الوطن وبسيادته وبرموزه، فإن الأمر يختلف.. لأن المعارضة لا تكون في هذه الحالة من أجل الوطن ومن أجل اثراء مسيرته وتجذير قيم التعددية والحريات وحقوق الانسان فيه.. بل من أجل جرح كرامته وتهديد سيادته ومصادرة قراره وخدش صورته.. وحين يصبح هذا الرهط من المعارضة التي يروم من ورائها محترفوها تحصيل مكاسب مالية أو مواقع سياسية بكل السبل والوسائل حتى ببيع سمعة الوطن وسيادته وكرامته في مزادات السياسة، فإنه يصبح من حق الوطن ومن حق الشرفاء وهم الأغلبية الساحقة جدا من التونسيين والتونسيات أن يقولوا لهؤلاء: كفى.. كفى تمسّحا للأجنبي.. وكفى استقواء به على الوطن.. فهذا الأجنبي الذي يزرع فينا الفتنة ويحرص على تغذيتها وعلى تأجيج نيرانها كلما أطلت بوجهها القبيح، هذا الأجنبي له أجندته وحساباته ومصالحه الخاصة.. وهي أجندة وحسابات ومصالح لا مكان فيها لحساباتنا نحن ولا لمصالحنا نحن.. وان كان يبدي لنا ظاهريا تعاطفا منافقا وحرصا انتهازيا على قيم في قدسية الحريات واحترام حقوق الإنسان ودعم البناء الديمقراطي. فهذه قيم نبنيها نحن بفكرنا وبسواعدنا.. وهي قيم نعليها نحن ونثريها حتى باختلافاتنا وبتنوع مشاربنا الفكرية وطروحاتنا السياسية.. فالاختلاف عنوان إثراء وإضافة وتحصين للتجربة وللوطن.. لكن شرط أن تصدق النوايا ويصدق العزم ويسلّم الجميع بالثوابت الوطنية ويحرصوا على احترامها في كل الظروف والأحوال.. وفي طليعتها الولاء لتونس فقط.. والانتماء لتونس وحدها.. والامتناع عن الاستقواء عليها بالأجنبي مهما كانت قوته ومهما بلغ الاختلاف من درجات.. وكذلك احترام الرموز الوطنية والقوانين والمؤسسات.. والتفريق بين المعارضة السياسية التي يفترض ان عمادها أفكار ورؤى وبرامج وبين الثلب وهتك الأعراض واستباحة كل الحدود والضوابط طلبا لموقع أو تحصيلا لمال. وفق هذه المعادلة يأتي فهم تصريح المخرج الكبير يسري بوعصيدة حين «رفض اعتلاء منابر الشيطان» لشتم بلاده.. وحين رفض التعامل مع احدى القنوات «رغم المبلغ المالي الخيالي الذي قدموه لي، لأن سمعة وطني وكرامته أكبر من أن أبيعها بحفنة من الدولارات، وأتعامل مع من يكيل السوء لبلدي آناء الليل وأطراف النهار.. فأنا أدين لتونس بكل شيء».. ليت كل محترفي «نضال السفارات».. وليت كل المهرولين للاستقواء على بلادهم بالأجنبي يقرؤون هذا التصريح الرشيق العميق.. وليتهم يحفظونه عن ظهر قلب ويتخذونه بوصلة تهديهم للعودة إلى جادة الصواب.. إلى كلمة سواء تبني ولا تهدم.. وتدعم صورة تونس وانجازاتها التي تحصلها بسهر وحكمة قيادتها وبتعب وعرق أبنائها.. ليتهم يقرؤون ويحفظون.. عساهم يعودون إلى خيمة الوطن.. فهي تتسع لجميع أبنائها..