الشجاعة أن يحبّ المرء الحياة، وأن ينظر إلى الموت نظرة هادئة، وأن يسعى إلى ما هو مثالي، وأن يفهم الواقع.. وان لا يخضع لقانون كذب منتصر إلى زوال.. جون جوراس يموت الكائن البشري، وليس بوسعه معرفة منزلته في الحياة، بما هي حكم الآخر قبل أن تنال منه الموت. وإن منزلة الفرد تقدير ينسب لمن تعايش معهم، عندما يفرض عليهم سلطة التقدير المعنوي أسرا. وبما أننا عرضة لمآثر الرجال، التي تحفر في الوجدان وشما، ليس بوسعنا إلا أن نجمع على أن صدام حسين رمزا من رموز هذه الأمة دون محاصصة عندما تتعنّت روحه عن صمت القبور، تسكن في الذوات دافعا للمقاومة. الموت حتمية واختيار، حتمية لأنها مآل لا مفرّ منه واختيار لما تكون أجناسا تمنح الحرية في طريقة الاقبال عليها، البعض يترقبها ساكنا وهو يرتجف خوفا من الألم. والبعض الآخر يسرع لملاقاتها وبه شوق لاحتضانها، يفتك الوجود من العدم، والحياة من الموت، فتتحفز بذلك فعالية المماهاة بين الأبعاد الزمانية، تتعامد فيها الأصالة والمعاصرة في خط تصاعدي لا يفاضل بين «سقراط» رمزا للحكمة و«صدام حسين رمزا للوطنية». وحينما تفاخر الأمم برموزها لا مناص لأمتنا إلا أن تفصح عن هويتها التي يكون الشهيد صدام تعريفا لها، وهو يجسّد شعارها «أقوياء دون غرور ومتواضعون دون ضعف»، فلا غرابة إذن والحق يقال أن شخصية الرمز الشهيد لم تكن إلا تلخيصا وإضافة لصفات كلّ الرموز التي أنجبتها الإنسانية، فكان بها يتحدى العالم المرتد عن انسانيته. وها هم أشباله يحتذونه بواسطتها لحدّ الآن، لقد اصطفته الأمة رمزا، جوهرا، يتجرّد من كل الأعراض الآنية، ينشد الكليات الأبدية، يتسربل بذات كان بها «هو ما هو» تسكن الذوات هاجسا، فتتصعد وطنا، يتصعّد بها عزّة ومجدا. وليس لأحد من الوطنيين أو دعاتها بقادر على أن يسحب عنه هذه الصفة التي علا بها إلى مقام العليين، وقد قدّم لوطنه ما لم يستطع أن يقدمه أحد، فحتى أولئك الضالعون في الخيانة ليس بوسعهم نفي ذلك ما دامت ذاكرتهم الحيوانية على قصرها مازالت تحتفظ، ولهم أن يتجاهلوا مادام الجهل سمتهم لكن التاريخ بإنصافه سيحفظ أفعال الرجل ما ظهر منها وما بطن. بارك الله في امة أنجبت ومازالت تنجب الرموز لمقاومة غيرية عدوانية حاقدة لا تترك مجالا لتعايش الآخر معها، عدوانية ابتدأت بخيبة كسرى، وسوف تنتهي بالضرب على أدبار رعاة البقر، وإلجام أفواه الصفوية بطيات عمائم الشر. عندما يكون الرمز حكمة المجاهدة في التوحد مع الوطن، يدفع بمن له رغبة في امتلاكه الإقبال على أفعال التميّز التي لا يطالها النعاج والنعام من سلالات البشر، فلا يسعنا الا ان نقول لمن جاء بعد صدام للحكم، من تجار الوطنية وسماسرة الرجعية ونواطير الامبريالية الذين لم يخفوا شهوتهم لهذا الامتلاك. انهم ليسوا بقادرين على ان ينالوا ما ناله القائد وليس لهم ان ينعموا بما أنعم الشهيد ولن يذكروا بمثلما يذكر الفقيد، وعليهم ان يقنعوا أنفسهم بأنفسهم ان الرمزية الوطنية لا ينالها الأقزام. بل هي استشراف لصناديد الرجال وإن كان لابدّ من إشباع شهوتهم من حيث هم لا يستثنون الرمز فهو ايضا لا يستثنيهم عندما ينقلب على نفسه من الرفعة الى الوضاعة، ليجد هؤلاء أنفسهم رموزا لكنهم رموز خيانة، ولنا الاختيار في من يستهوينا الباقي مجدا والداثر سفالة. كان وقع الجرم في حق أمتنا بإعدام رمزها. ولادة لاتحاد الوطني بالقومي والقومي بالانساني ، اتحاد يفتك الآخر الانساني من عزلته ليكون شريكا في ظاهرة الحزن التي تتأتّى عن الموت المقترن بالألم، موضوعا للتعاطف البينذاتي المتسامي عن الاعتبارات الايديولوجية الضيقة، تخفيفا لوطأة الحزن على من ينتمي اليهم المستهدف وتأسيسا لحميمية كونية ما أحوجنا اليها اليوم لبناء الغد. الجرم الذي مزّق صمت الانسانية استنكارا يعيد في الأنفس مكبوتا حضاريا، يفصح عن نفسه في بكاء «هستيريا جنون الوطن» لهذا بكينا ومازلنا نبكي مصابنا الجلل». بكينا ومازلنا نبكي يا سيدي، ونحن لا ندري امام ذهول الصدمة ما الذي يبكينا؟ أيجوز البكاء على من تعالى منا الى عمق السماء؟ وحري بنا ان نضعه نيشانا على صدورنا فيتلاشى البكاء ويحضر الجلد عن المفتقد، وإن كانت الجفون على غيره لا تسخرو على أحد. بكينا ولم ندر ما الذي يبكينا! حسرة الفراق؟ أم عزة الشرف؟ بكينا من أجل انفسنا يتامى هوية لم يرد لها التطلع، بكينا لأننا فقدنا بدرا نستلهم من روحه فعل المواطنة، وهو يسبر أغوارها بفعل المقدر، يستقرئ تاريخ الأمة حنكة وتمرسا، يستشرف مستقبلها بتنبؤات الواثق المستبشر. نحن اليوم نعايشها، ممارسة تجسد التمثل. بكينا ونحن لا ندري ما الذي يبكينا! رغبة الحياة؟ أم شوق التأبد؟ بكينا وبنا ذهول من بشاعة الجريمة الشرف الشهادة التي أحدثت الرجة لرسم «الكل الانساني» نتاجا لخصوصيات جميع الأمم. بكينا لا ندري ما الذي يبكينا! غبطة الراحل؟ أم شقاء المستقدم؟ بكينا لأننا طعنا من الخلف في نبض هويتنا لما أدركوا خطورة المستنهض لأمة تنشد قمة التحضّر. بكينا وقد اقتنعنا اليوم ان البكاء لا يرضيك فامتشق السيف يفديك، وانقطع حبل الوصل مع البكاء ونحن لا ندري أكان فعلنا هذا اقتدار الردّ على الجرم؟ أم تحل بتسامح الكرم؟ لا نعلم أكان موقفنا هذا إخلاص ينمّ عن الوفاء أم هو نسيان ينم عن الغباء؟ وليعلم السيد الشهيد ان أبناء أمّته يقبرون العجز ويحيون الجرأة بإعلانها مقاومة شرسة تقتنص، العجّم والغرّب والهمّج والهجّن على حدّ السواء. لقد استفقنا من ذهول الصدمة وأبناء الأمة يصدّون الهجمة انتشينا فحملتنا الرغبة أن نكون أفلاطونيين، نرتفع بالأنفس من عالم الخسّة إلى عالم الرّفعة، تشبّها بما لا يمكن ان ينسى من أفعال الرّجال، كإبداع يمارس علينا العتب، فيجتذبنا النداء علنا من هذا العالم القريب منكم يا رمزنا الشهيد نبلغك أخبار الوطن بعد الرحيل. الفرس والمتفرّسون تتعتعهم قشعريرة الحمى، يقينا منهم أن روحك تستنسخ في الأنفس قضية وسوف تحدث البلية. العرب وما هم بعرب الاخوة في الجنسية يستكرشون من أزمات الأمة وليست لهم قضية. العرب، العرب يلتحفون الصّبر ويقتاتون الوطنية. المقاومة تتصعّد نحو احتراف الموت بما يوضّح ملامح الهوية. الملالي حيارى في إعلان هجانتهم المنحدرة من أبوة كسراوية وأمومة قولدارانيسبة، يحلقون رؤوسهم على طريقة المارينز ويخفونها بتلافيف العمائم على الطريقة القمية. وفي انتظار مدّكم سيدي بأخبار الوطن في عيد استشهادك الثالث طوبى لروحك اطمئنانا ما دام في الخلف من يقاوم وسيقاوم على العهد الذي رسمت ولن يحيد. لست عليما لذكر مناقب السيد الشهيد ولست خبيرا في شؤون الوطن، وإنما أنا رأي لا بدّ من الجهر به: ان الرّمز صفة تكتسب بالدربة، على ممارسة الفعل الوطني، وليس هو صفة يهبها الأجنبي، ومن كان به شوق لا مشتاقه، عليه أن يتخذ سيرة صدام حسين نموذجا للرّمز الوطني وهيهات أن يبلغ الرّعاع النّعام هذه المنزلة.