برزت في بهو الفندق سيدتان أوروبيتان. تألّقتا في شقرتهما كزهرتين وسط تجهّم كهول الباحثين وشيوخهم. اتّجهنا كلّنا نحو حافلة ذاهبة إلى مقرّ انعقاد الندوة الدولية للترجمة بالقاهرة، حيث تكرّم يومها وزارة الثقافة المصرية عشرة مترجمين عربا وأجانب، من بينهم السيدتان الأنيقتان: الأولى إيطالية هي إيزابيلا كاميرا دافيليتو و لي بها سابق معرفة وحديث مطوّل حول برنامج ترجمة تشرف عليه لدى دار نشر إيطالية، والثانية إسبانية عرّفتني بها زميلتها أثناء الطريق، وتدعى كارمن رويز برافو رئيسة قسم الدراسات الإسلامية بجامعة مدريد الحرّة . هكذا التقينا مباشرة أول مرّة بعد أن جمعنا قبل ذلك بسنتين الأستاذ محمد عبد الكافي على صفحات كتابه «ثلاثة أقلام إسبانية». إذ حرّرت أنا كلمة الناشر لتوضيح هدف الكتاب، وكتبت الأستاذة كارمن مقدّمته مظهرة ابتهاجا صريحا بمنجز الأستاذ عبد الكافي واعتقادا بأنه سيجلب نحو الثقافة الإسبانية مزيدا من القرّاء العرب... وتضيف: «بأنه من المناسب لنا كثيرا نحن ( الإسبان/ العرب)، وكذلك لأيّ «إسبانيّ القراءة» التفكير في ما يحويه من شهادة واهتمام ببلدنا، ومقارنة بمصير البلدان العربية المجاورة، و من إيمان بالتسامح والحريّة». وهي تعتقد أن ليس ثمّة ما هو أجدى من القراءة المتبادلة وتحريك الحوا ر بين الثقافات التي وإن توحّدت في الأهداف والمقاصد، إلا أنها متنوّعة في الأشكال والصّيغ . ثم حضرت في ندوة القاهرة مداخلتها عن «ترجمة الفكر العربي المعاصر إلى اللغة الإسبانية» وفيها حللت فكرة أن الإبداع الأدبي هو الحامل الهام والناقل المخلص للفكر بصورة عامة، واستعرضت بعد ذلك بواكير ما ترجم إلى الإسبانية من الإبداع العربي مفصّلة ذكر خصائصها، من حيث الظروف الاجتماعية والتاريخية، من ذلك مثلا مؤلفات جبران خليل جبران، أو الأعمال المنجزة بالمغرب في أيام الانتداب الإسباني، أو ما ترجمه الأستاذ غرثيا قوميز عن طه حسين وتوفيق الحكيم، مما اعتبر جميعه إرهاصات جاء على إثرها مشروع الأستاذ مرتينيز مونتافيز التجديدي الممنهج لترجمة الأدب العربي. وبعد أعوام أخرى عندما أنهى الأستاذ محمد عبد الكافي ترجمة روايتي «تغريبة أحمد الحجري» عرض على الدكتورة كارمن نشرها ضمن سلسلة «كانتا آرابيا» التي تديرها، فتحمّست للأمر وأصدرت النسخة الإسبانية في ظرف وجيز. وعند حضوري إلى مدريد لإمضاء الكتاب في حفل تقديمه إلى الجمهور أتيحت لي فرصة هامة لأعرف عن قرب ما تبذله هذه السيدة المجتهدة لتطبيق أفكار تتبنّاها قولا وتجسّدها عملا، ولألمس على أرض الواقع ما لمحته بين سطور ما كتبته سواء لندوة القاهرة أو في مقدمة الكتاب. فثباتها على منهج رسمته لحياتها ظلّ هو نفسه منذ سنة 1976 حين كتبت عن أمين الريحاني وحوار الحضارات كتابا يرشح عنوانه بمحتواه وبالمعاني التي بقيت وفيّة لها حتى اليوم . اهتمّت في بداياتها بالفكر الألماني وترجمت منه أعمالا قيّمة، ودرست الأدب الموجّه للأطفال وأنجزت فيه كتبا وبحوثا مرجعيّة، ثم بعد أن أتقنت اللغة العربية انطلقت حسب تشبيه الألماني هرتموت فاندريش لمهنة المترجم على طريقة القدّيس «كريستوفوروس» القويّ البنية الذي تروي الأسطورة تطوّعه لحمل الناس عبر نهر خطير، ونقلهم من ضفّة إلى ضفّة أخرى ، فترجمت إلى الإسبانية ما يقارب العشرين عملا إبداعيا عربيا... إلى جانب مؤلفاتها العديدة عن الإسلام في أوروبا، وعن تناقض الإيديولوجيات في الوطن العربي، هذا إضافة إلى عملها الأكاديمي في الجامعة، وفي تكوين طلبة حذقوا العربية وفنّ الترجمة منها وإليها، وقد سمعت بعضهم يثنون عليها ويذكرون أفضالها. في زيارتي الأخيرة لمدريد حدثتني الدكتورة كارمن عن مشروعيها الأثيرين على نفسها وهما: «إيديا آرابيا» وهي مجلة دورية تهتمّ بالمواضيع الفكريّة والحضاريّة المتعلقة بالعالم العربي كما يدلّ اسمها، بدأت بالصّدور كل سنتين ثم صارت سنويّة والآن هي نصف سنوية، وبلغ ما صدر منها إلى حدّ الآن سبعة أعداد. تتكوّن أسرة تحرير المجلة من خمسة أساتذة جامعيين برئاسة د. كارمن، وتتوزّعها أقسام أربعة هي: التحليل والدّراسات المقابلات الإبداعات ونصّ مترجم من الأدب القديم أو الحديث. المشروع الثاني «كانتا آرابيا» هو سلسلة كتب مترجمة عن العربية تدور مواضيعها حول الرّحلات والحوار الثقافي ومقارنة التجارب في الأدبين العربي والإسباني. وقد صدر من هذه السلسلة إلى اليوم ستون كتابا في ظرف العشرين سنة الماضية، من بينها كتاب عبد الوهّاب البياتي «تجربتي الشعرية»، ورواية نجيب محفوظ «حب تحت المطر»، وأخرى للطّيّب صالح «عرس الزّين». ومازالت الدكتورة كارمن رويز برافو تتحرّك على عدّة جبهات، وتشارك في مؤتمرات الدفاع عن الثقافة العربية وقضايا الحريّة المهدورة على أرض فلسطين، لذا تعتبر من مناضلات المجتمع المدني، إضافة إلى كونها صاحبة مشروع ثقافي شرعت فيه منذ كانت طالبة تتنقّل بين مدريدوالقاهرة وتونس، وما زال عطاؤها في أوجه ، تحدّثك عنه بحماس وتعتبره مجدّد شبابها وينبوع حيويّتها الباديين للعيان.