تحتفل تونس هذه السنة بمرور مائة سنة على ميلاده، وقد قفزت الى ذهني حوله الذكريات التالية: فقد رأيتُه أول مرة، في (قهوة القشاشين) المجاورة لجامع الزيتونة جالسا على (بنك من أبناكها)، ولعلنا كنا آنذاك في أوائل الصيف، عندما كان طلبة الزيتونة يهمون بتوديع السنة الدراسية، وربما كنا في أوائل الخريف عندما كانوا يستعدون للعودة المدرسية. كان ذلك الجالس في المقهى يرتدي جبة ناصعة البياض، وكان وجهه الأبيض مشرقا يفيض شبابا وحيوية وجمالا، وعلمت من بعض من كانوا يجلسون هناك، أن ذلك الشخص هو الشاعر مصطفي خريف، ورأيت على باب احدى المكتبات التي عرفتُ فيما بعد، أنها تسمى: (مكتبة المنار) ورأيت على بعض الجدران المجاورة اعلانات عن صدور ديوانه (الشعاع) سنة 1949 مكتوبة بخط يدوي غليظ. لقد استطعت فيما بعد، تحديد زمن رؤيتي الأولى للشاعر بالعودة الى تاريخ صدور الشعاع، فقد كان الشاعر آنذاك في التاسعة والثلاثين من العمر،اذ أنه ولد سنة 1910 في مدينة نفطة التي تبعد عن توزر، حوالي خمسة وعشرين كيلومترا، وكثيرا ما ذكرت المراجع خطأ أنه ولد في سنة 1909 التي ولد فيها الشابي. رأيت مصطفى خريف في ذلك اليوم ينهض من مكانه بالمقهى بين الفينة والأخرى ويتجه الى المكتبة التي طبع فيها ديوانه، ولعله كان يأخذ من صاحبها نسخة يُهديها الى بعض أصدقائه الذين يمرون به، أو يكتب على بعض النسخ كلمة تذكارية من المؤلف للعارفين به وللمولعين بشعره، وإن لم يكن هذا التقليد معروفا في ذلك الوقت، ولم أقتنِ للأسف، نسخة من ذلك الديوان، ولم يخطر ببالي أنني لو فعلت آنذاك وطلبت منه أن يكتب لي عليها اهداء لأصبحتْ نسخة نادرة بمرور الزمان، فقد فوَّتُّ على نفسي فرصة لا تُعوّض، وكم فوّت أمثال هذه الفرصة في تونس والمشرق وفي مختلف اللقاءات والمهرجانات الوطنية والعربية والعالمية، ولعل عذري في ذلك أنني لم أكن آنذاك في عِداد الشعراء بل ربما لم أكن قد كتبت بيتا واحدا من الشعر، ولم أكن أعرف صلة هذا الشاعر بالشابي الذي كنا نقرأ كل ما نعثر عليه من شعره، وخاصة قصيدته (النبي المجهول) التي نشرها فتحي الزليطني بخطه الجميل في أربع صفحات زرقاء بحروف بيضاء، مصدّرة بصورة الشابي التي عُرف بها في المشرق والمغرب، وروّجها كما روّج قصيدته تلك بين محبّي الشعر، فكادت تعوضهم عن ديوانه الذي لم يطبع الا بعد احدى وعشرين سنة من رحيله. كنت أرى الشاعر مصطفي خريف ذلك اليوم ممسكا بإحدى يديه قهوة يرتشفها وفي يده الأخرى أو بين شفتيه سيجارة يدخنها، وكنت أراه أحيانا جالسا وقد وضع احدى رجليه على الأرض والأخرى على (البنك) في نصف جلسة قُرْفصاء. كما تناهَى الى أسماعنا يوم ذاك أن الشاعر باع نصيبه في ميراث أبيه من النخيل ببلاد الجريد، بعد استقراره في العاصمة، من أجل طبع ديوانه، فأعجبنا فيما سعى اليه من تضحية بالمادة في سبيل الأدب، وقد كان طبْعُ كتاب في تلك الأيام حدثا أدبيا باهرا ومغامرة لا يُقْدِم عليها الا أصحاب المال الوفير والعزم الكبير، وليس أدلّ على ذلك من أن الشابي، على شهرته، قد مات قبل أن يتمكن من نشر ديوانه الذي حيكت حوله الأساطير وكأنّ نشره يحتاج الى بيع كامل نخيل الجريد. لا أذكر أني قرأت ذلك الديوان الا بعد أن بدأت أكتب الشعر وأذكر أني كتبت عنه نقدا أرسلته الى مجلة «الآداب»ابان صدورها، فلم تنشره لأسباب عرفتها فيما بعد، ولم يعلق بذاكرتي من شعره غير معارضته لقصيدة الحصري القيرواني: «يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده»؟ التي مطلعها: «العهدَ هلمَّ نُجدّدهُ فالدهرُ قد انبسطت يدهُ» وأذكر أني حضرت، تدريب مجموعة صوتية كونتها بلدية تونس قبيل الاستقلال، فيما أتذكر، لحفظ التراث الغنائي وكان يدربها الموسيقار المصري المثقف الأستاذ عبد العزيز محمد بحضور جماعة من أصحاب الأصوات الجيدة في مقدمتهم الفنان محمد عبد العزيز العقربي، وقد سمعت المجموعة تتدرب على تلحينٍ لمختارات من تلك القصيدة، وكان اللحن الذي وضعه عبد العزيز محمد جميلا لكننا لم نسمعه بعد ذلك للأسف. وبعد صدور ديوان (الشعاع) لم أعد أرى صاحبه مصطفي خريف، ثم أصبحت أراه أحيانا من بعيد على غير الصورة المشرقة التي رأيته عليها أول مرة، فقد تدهورت صحته وساءت حاله وشحب وجهه وتغيرت هيأته في هذه الفترة من حياته التي تحتاج الى وقفة طويلة ممن تعرفوا عليه فيها وعرفوا أسبابها أكثر مني. وستكون لي عودة اليه لأتحدث عنه في الفترة التي عرفته فيها عن كثب.. فإلى اللقاء.