في لقاء سابق تحدثت عن مصطفى خريف كما عرفته عند صدور ديوانه (الشعاع) سنة 1949 وفي ختام ذلك الحديث وَعَدت بالرجوع الى الأيام التي عرفته فيها عن كثب حيث صرنا فيها صديقين نتقابل باستمرار في الاذاعة أو في ما جاورها من المقاهي، وفي مقهى باريس بوسط العاصمة وما حولها من المقاهي والمطاعم والمسرح البلدي لمشاهدة بعض التمثيليات، وذلك من أوائل الستينيات من القرن الماضي عندما توطدت بيني وبينه العلاقة الى آخر حياته. ومما أذكره، مما له صلة بسيدي مصطفى، أنني أعلمته بأنني سأكون عضوا في مؤتمر الأدباء العرب الخامس الذي سينتظم في بغداد في الشهر أوائل سنة 1965، وبأنني سأشارك في المهرجان المواكب لمؤتمر الأدباء العرب بقصيدة وكان ذلك المؤتمر والمهرجان المواكب له في أوج مجده ونشاطه، خاصة وأنا لم أعرف في تلك الأيام المؤتمرات والمهرجانات ولم يسبق لي أن شاركت فيها، وأعددت قصيدة مطلعها: سبَقتنا أشواقُنا ومُنانا فالْتقينا، في الحُلْم، قبل لقانا وقبل أن أسافر الى بغداد بأيام قلائل قابلت سيدي مصطفى في مقهى باريس، الذي كنت ألتقي به فيه باستمرار، وفي صخب ذلك المقهى قرأت عليه القصيدة، وبعد أن سمعها أبدى اعجابه بها وقال لي: لا أوصيك الا بالتأني في قراءتها ورفع الصوت وحسن الانشاد. ومن الأشياء التي أذكرها عن صلتي بسيدي مصطفى أني حدثته عن أحد أخوالي، وهو مؤلف لبعض الأغاني بالاذاعة التونسية مثل (شطك يا قليبية ما ابها) وقلت له انه يحفظ كثيرا من الشعر الملحون، فطلب مني أن أسأله هل يحفظ (جرح ملاك) ولما سألته عنه قال لي: أحفظه، فكتبته عنه ولما قابلت سيدي مصطفى قلت له: لقد أتيتك بجرح ملاك، فابتهج ابتهاجا كبيرا وقال لي: هيا نتناول الليلة العشاء معا على نخب هذا القصيد، وفي المطعم شرعت في قراءته عليه وظل يستمع اليه في انتباه واعجاب، ويعيد ويستعيد ويقوِّم ويصوِّب وهو منوّع القوافي والأوزان ...وهذا مطلعه: نا كيف انساوي ؟ مجروح يا قلة طبيب اللي يداوي ناري كوّايه من فم سماوي طامع بدوايه هذه بعض الذكريات التي أقدمها في هذا الركن بمناسبة الاحتفال بمرور مائة سنة على ميلاد مصطفى خريف، وأترك بسطها مع غيرها من الذكريات في كتاب خاص عنه في هذه السنة. الى ذلك الوقت لم يكن لسيدي مصطفى ديوان غير ديوانه الأول (الشعاع) وفي سنة 1965 نشر ديوانه الثاني (شوق وذوق) الذي مرض اثر صدوره ودخل المستشفى العسكري حيث قضى أيامه الأخيرة، وقد زرته فيه قبل رحيله بحوالي أسبوعين وكان يزوره فيه كثير من الأصدقاء والمثقفين والصحفيين ومن بينهم الصديق الاذاعي بوراوي بن عبد العزيز الذي سجل معه هناك حديثا طويلا يعتبر وثيقة صوتية طريفة سجلت قبيل وفاته بمدة قصيرة في برنامجه (سمار الليالي) وفي أواخر تلك الحلقة من ذلك البرنامج طلب منه صاحبه أن يتحدث عن ديوانه (شوق وذوق) اثر طبعه وأن يُعرِّف المستمعين أو القراء عنه وعن مدى انتشاره في تونس؟ وقبل أن أقدم ذلك الجواب ألاحظ أن سيدي مصطفى كان شديد الحرص على التكلم باللهجة التونسية الصميمة في المجالس الخاصة والعامة، وقلما يستعمل اللغة العربية الفصحى في كلامه حتى عندما يتحدث في البرنامج الثقافية بالاذاعة التونسية، لذلك كان جوابه باللهجة العامية بطريقته المعروفة هكذا حرفيا: (..نقلِّك كليمة هي أنا أعلنتها بين أصحابي، ونعرف أن بلادنا ناقصة من جهة عدد الناس المغرومين بالأدب ومغرومين بالمطالعة ويصبروا على قراءة الآثار. استهلاك الآثار الفنية بصفة عامة «ما تلقاش واحد كيف ما نقولوا يقف قدام تصويرة والا قدام تمثال ويقعد يشرح فيه ويفهم فيه بالقدا ويفسرو ويذوقو ويدفع فيه خمسة دنانير، وهوما لو كان يقولولو بخمسة ميا ما يشريهش. ما هو هكة والا لا؟ العدد متاع الناس اللي يتذوقوا الحاجات هذيَّا ما زال قليل. ننتظروا في الأجيال الجاية بعد خمسة والا عشر سنين يكثروا». هذا أوَّلا، وثانيا أنا قلت، أعلنت عند أصحابي قلت لهم: يسرني «ياسرْ باش الانسان يقرا الكتاب متاعي، ومن ذلك أني وقت اللي نحس واحد قرا لي الكتاب متاعي بكلُّو، وكيف ما يقولوا فاق (اي انتبه) ببعض نكت أنا حطيتها ثميكه نهديلو نسخة بلاش ونشرّبو قهوة ونعطيه دينار. مازالشي كلام؟ الْتَوْ ما طحتشي بواحدة عمل ها العملة هذي»(أي الى التوِّ والآن لم أعثر على أحد قام بهذه العملية). عاد محل شاهد تعدَّى الكتاب مِنُّو جانب مُهِم وهاني متوقّع با يمشي بالشوية بالشويّة، المسألة هذيّا ما هاش جديرة بأن ينتظرها الانسان تكون سريعة. لا تِمْشي بالشويَّه بالشويه خير.) هذا ما قاله سيدي مصطفى حرفيا عن ديوانه شوق وذوق اثر صدوره بلهجته العامية التونسية، وأذكر أني سألته أثناء طبعه عن سعر النسخة الواحدة منه فقال لي ما معناه: لا يهمني الثمن لأني مستعد أن أعطي دينارا لكل من يقرأ ديواني ويفهمه وأسقيه قهوة، أمّا قصة طبع هذا الديوان فسوف أرويها في مناسبة أخرى ان شاء الله لأنها طريفة.