يلاحق طفلته بين غرف المنزل يلاعبها لعبة الاختفاء، ليس مضطرا لأن يغمض عينيه، وهي لا تحتاج ان تذهب بعيدا لتختبئ، يتحسس عبر الجدران رائحتها ممسكا بخيوط صوتها الملائكي وعندما يقترب ترتمي في حضنه فتعلوا الضحكات والقهقهات، بينما كانت الوالدة توظب الأدباش في مواضعها الجديدة بغرف المنزل الجديد. هذه البسمة وجدت طريقها أخيرا الى قلب كفيف أبصر نور الأمل بعد ان كاد اليأس يلتهم قلبه وأزاحت عن عينيه ظلمة فقدان البصر الذي لازمه نصف قرن من عمره فلامس معاني التضامن والتكافل الاجتماعي وتيقن ان ثمة عين تطرف دوما. هكذا تغيرت حياة الكفيف صالح الحداد نحو الأمل بعدما وهبه أحد المواطنين الكرماء وأصحاب النفوس النبيلة مسكنا يؤويه وأسرته الصغيرة. «الشروق»زارت الكفيف في منزله الجديد ونقلت مشاعر الشكر والامتنان والشعور بالارتياح ليس بالاستقرار بالمسكن فحسب بل لوجود من يذكر ويحنو على من أغفلتهم الدنيا. ببهو منزله الجديد بحي ملاجئ سحنون بالقيروان استقبلنا، يحتضن طفلته سيرين (عام وبضعة أشهر) تتمرغ في حضنه تحتمي بعطفه بعفويتها وبراءتها تدفعه الى ان يلاعبها، هي تجهل وضع أبيها الكفيف لكنها وجدت فسحة من المرح في منزل والديها الجديد فعلت ضحكاتها. دنيا جديدة «هناك فرق بين الظرفين وقد تحسنت ظروفي والحمد لله» هي احدى مقدمات الشكر على النعم التي نطق بها صالح الذي عرف الحرمان طيلة 46 عاما هي عمره في الدنيا. ويؤكد ان أمنيته تحققت بعد 4 سنوات من الانتظار... واي أمنية بعد المسكن هذه الايام. ويذكر صالح كيف اضطر لمشاركة اخوته (منهم كفيفان مثله) منزل والدهم البسيط. وعندما وجد في الامر صعوبة غادر محل والديه واستأجر مسكنا عجز عن دفع معلوم ايجاره (60 دينارا) فكان يتردد على جمعية المكفوفين التي كانت تمد له يد المساعدة بما يخفف عنه أعباء الحياة مما يتوفر لديها من امكانات متواضعة شأنه شأن نحو ألف كفيف بالجهة. كان أكثرهم حظا باعترافه «اعتبر نفسي محظوظا» ورغم انه لا يعلم من تبرع بالمنزل لفائدته الا انه يرغب في اكبار فضله وشكره، ما يعلمه صالح هو ان جمعية المكفوفين هي التي مكنته من المنزل بفضل تدخل أحد مواطني الجهة (القيروان). تضامن وامتنان «أود ان أعرف صاحب هذا الفضل لأشكره» يؤكد صالح ويضيف «الحمد لله هناك خير في الدنيا والفضل لقيم التضامن والتآزر التي تتوفر ببلادنا»، يؤكد هذا الكفيف الذي لامس هذه القيم من خلال اندماجه في المجتمع دليله عصاه البيضاء ويقينه بأن ما أصابه ما كان ليخطئه. بعض الطرائف المؤسفة سجلها صالح عند توجهه الى منزله الجديد، وهي من المفارقات، فقد تأخر التحاق صالح وأسرته بالمسكن بسبب تعرضه للسرقة التي طالت الأبواب الخشبية وحوض الاستحمام وأسلاك الكهرباء وصنابير المياه مما دفع بالمتبرع (المجهول) الى اعادة الاشغال من جديد في انتظار اقتناء وتركيب أبواب الغرف كأن الأقدار تريد ان تهب حسناتها وامتنانها لهذا الشخص، وتلك احدى طرائف الحياة. قبل أيام التحق صالح بمسكنه الجديد يطير به الفرح تبصر عيناه البصيرتان نور الامل وتتلمس يده التي هي دليله في الظلمة مشاعر التعاون وقيم التعاون والتكافل الاجتماعي. هل من اضافة؟ بعد تحقق أمنية العمر أصبح صالح يتمنى الاضافة وتحسين حياته وفرحته بالمسكن لم تخف حاجته الى مورد رزق يكفل به أسرته. فجمعية المكفوفين التي تكفل تغطيته الاجتماعية تمتعه بمنحة شهرية لا تتجاوز 25 دينارا حسب قوله يحصيها (720 مليما في اليوم..؟) بينما متطلبات ابنته الرضيعة ولوازمه تتطلب أكثر من ذلك. هكذا يرى صالح (الكفيف) مضيفا ان هذه الظروف يشاركه فيها مئات الاشخاص ويأمل ان يكون أمثال من تبرع له بالمسكن كثر حتى يعم الخير جميعهم ويجدوا من الامل ما «أبصر». «طفلتي سيرين هي أمل حياتي وتشغل وقتي وهي أملي في الحياة وأتمنى ان تتوفر لي أحسن الظروف لأضمن لها طفولة مرحة ودراسة موفقة عندما تكبر»، بهذه الأمنية يختم صالح أمنياته من الدنيا مجددا امتنانه لصاحب الفضل في سعادته ويرغب في شكره.