شيخ انهكه المرض وأتعبته مصاعب الحياة، عاش وحيدا، يتيما في كوخ وسط بستان يقع في حي عين الآبار بتاجروين. مؤخرا غاب عن الانظار وانقطعت اخباره مما جعل أهل الخير يسألون عنه، فقد كان يوميا يخرج الى السوق للحصول على قوته وبعض السجائر ممن يعرفونه فهو لا يمد يده ولا يستعطف أحدا. ولكن حين عجزت قدماه عن حمله وذهب نور بصره بقي وحيدا في هذا الكوخ فلا زوجة تهتم بشؤونه ولا ولد يسأل عن أحواله. الشيخ محمد الطيب المعروف باسم «السرجان» يبلغ من العمر حوالي 80 سنة لأنه لا أحد يعرف تاريخ ميلاده فقد أتى منذ أربعين سنة تقريبا من أحد أرياف تاجروين مع والده واستقر بالمدينة، بعد أن افتقد أمه منذ صغره وحرم من حنانها وعطفها. وأمام هذا الحرمان زادت آلامه وكثرت جراحه عندما توفي والده وتركه وحيدا. بقي محمد الطيب يتجول في الشوارع والأنهج الى أن تكرم عليه أحد المحسنين بكوخ وسط بستانه الذي عاش فيه يجود عليه الجيران بالأكل والشرب وخاصة الشاي والسجائر. أحبه الناس لطيبته وحسن أخلاقه وتبرع له البعض بمقدار من المال لبيع السجائر ليلا ولا أحد تعرض له أو آذاه. فقد بصره من عجائب هذا الشخص أنه لا يذهب الى المستشفى ولا يأخذ أي نوع من الدواء إذا مرض فكان يداوي مرضه بالحشائش. وأذكر أننا حين كنا صغارا نذهب الى كوخه المجاور لبئر لنشاهده يستحم بالماء البارد في فصل الشتاء ولا يصيبه أي أذى لكن السنين فعلت مفعولها وبدأ جسمه يتأثر بالبرد القارص ونقص التغذية الى أن انهار وعجز عن الخروج. يقول السيد الأمين الجبابلي صاحب الكوخ لقد اتصلت بالعمدة والشؤون الاجتماعية وكل الجهات المسؤولة لايجاد حل لهذا الشيخ بعد أن فقد بصره وهو معرض للاحتراق في كل لحظة ولكن الى حد الآن لم نشاهد أي تدخل. الحالة مزرية ومؤسفة في وقت أعطى فيه رئيس الدولة كل العناية للمسنين وضعاف الحال فهل يعقل أن يبقى مواطن محروما من الحنان والدفء في وقت تعددت فيه الجمعيات الخيرية التي تهتم بمثل هذه الحالات؟ وحرصا منا على متابعة الموضوع اتصلنا بالسيد عبد الستار العرفاوي معتمد تاجروين الذي كان متأسفا لهذه الحالة الاجتماعية وأكد أنه اتخذ جميع الاجراءات اللازمة والعاجلة لنجدة هذا المواطن الذي يستحق الرعاية «ففي تونس لا يمكن لأي مواطن ان يعيش على الهامش وهذا ما حرص عليه رئيس الدولة بنفسه» وأضاف أنه أعطى تعليماته الى جمعية رعاية المسنين بتاجروين والمكتب المحلي للشؤون الاجتماعية لأخذ التدابير اللازمة والضرورية. غادرنا المعتمدية واتجهنا الى مقر جمعية رعاية المسنين للاطلاع على الاجراءات المتخذة. مديرة المركز قالت ان هناك عدة خيارات سيقع اختيار أحدها فإما تكليف عائلة برعايته مع تكفل الجمعية بالمصاريف أو إيواؤه في دار المسنين وأكّدت أنهم سيتحولون في الحين الى مقر سكناه لمعاينته. لم تمض أكثر من نصف ساعة حتى أقبل المشرفون على الجمعية والشؤون الاجتماعية والعمدة إلى مقر اقامة السيد محمد الطيب باذن من السيد المعتمد. مصب فضلات وجدناه خارج الكوخ فدخل أحد المواطنين الى الداخل لاخراج ما بداخله: ثياب بالية، خضر متعفنة، مواد غذائية... كنا نبحث عن وثائقه الشخصية أثناء البحث تفاجأنا بوجود بعض النقود موزعة في أكياس من البلاستيك وهي حسب رأيي متأتية من بيعه للسجائر لمدة تتجاوز العقدين. العمدة ذكر لنا أنه عرض عليه التمتع بالمنحة المخصصة للمعوزين لكنه رفض وأضاف أنه يرفض الذهاب الى مركز رعاية المسنين. بعد تفتيش أكوام الثياب تم نقل المبلغ المالي الى السيد قاضي الناحية للتحفظ عليه بينما تم نقل المواطن الضرير الى المستشفى المحلي بتاجروين للقيام بالفحوصات الاولية رفقة رئيس جمعية المسنين الدكتور ماجد ليحال لاحقا الى المستشفى الجهوي بالكاف أين يوجد طب الاختصاص. وأثناء حمله كان يصيح «اريد البقاء، لا أريد ان أفارق منزلي» فرغم بساطة المسكن فإنه تشبث به كالطير الذي لا يريد مفارقة وكره بينما اجهشت بعض النسوة ممن عايشوه بالبكاء، «الدموع سالت دون ان اشعر» هكذا قالت احداهن وأضافت أخرى «إنه بمثابة الأب فلم نر منه أي مكروه لقد تعودنا عليه». نرجو في الأخير ان يلقى العم الطيب كل العناية وينعم بنور البصر ثانية ويعود الى جيرانه الذين أحبهم وأحبوه ولا يريد بديلا عنهم حتى وإن عاش في نفس الكوخ.