يعتبر الحق الثقافي أحد البنود الثابتة في البيان العالمي لحقوق الإنسان.. والبيان العالمي لحقوق الطفل فقد ورد في صدارة الحقوق المدنية المجسمة لحق المواطنة كأسّ فاعل في الحياة الديمقراطية.. نحتت مباهجه الانسانية بمعية حقوق أخرى أساسية مثل حق التعليم المجاني والكفالة الصحية والشغل والسكن وحرية التعبير وغيره كما دعيت مكونات المجتمع المدني والسلطة القائمة إلى وجوبية توفير الغذاء الثقافي وتطويره ونشره بين السكان بطريقة مجانية لشدّ ازر التعليم والتكوين ودحر الأمية عبر الفنون المستظرفة: كالمسرح والرسم والموسيقى والأناشيد والمطالعة. وهي لعمري قواعد علمية / بيداغوجية تمكن الطفل والشاب المراهق من اثراء وطابه وتجويد تعبيره.. وصقل مواهبه وتفجير اشراقة معرفية ابداعية في كينونته ونفسيته لغرض بناء شخصيته المدنية الواعدة.. مع الأخذ والتناغم العلمي الوطني مع سديد التجارب التونسية في ميداني التعليم والتثقيف بين الماضي والحاضر.. والتي لها من العمر المادي ما يفوق القرن. وعلى خطى العلامة ابن خلدون صاحب علم الاجتماع سارت قافلة فكر الاصلاح والتقدم على درب التقرير لشق وتبديد دياجير الجهل والتخلف وحياة الاستعباد التي فرضها الاستعمار الفرنسي على البلاد والعباد فجاء الحدث ذات يوم من سنة 1909 إذ قفز ثلة روّاد مسرحنا التليد فوق خشبة المسرح بعناد وعزم لا يلين.. فهب رجال الصحافة والفكر والسياسة لمناصرتهم بحمية النضال عند رفع راية المسرح التونسي القويم ومن هذا القطر انهمر الغيث أنهارا، فتعدد بعث الجمعيات المسرحية النجمة الآداب الشهامة وغيرها وتزامن في الثلث الأول من القرن الماضي مع بروز ثلة من كتاب النص المسرحي: الجعايبي محمد الحبيب كراباكة خليفة السطنبولي وقدمت في ذلك الزمن الصعب مسرحيات تاريخية فذة وأخرى شكسبيرية عالمية بلغة الضاد فأقبل الناس عليها وصفقوا لها بكف صخب الوجدان ولوعته على زمن عربي فات عزّه وديست نخوته. وبعد الحرب العالمية الثانية عاد المسرح بعد تعطّل إلى سالف نشاطه الفني فتكاثرت الجمعيات المسرحية وتمددت سنة بعثها على كامل المدن التونسية.. ولحمايتها من غطرسة مدير المسرح البلدي «الفرنسي» تمّ بعث نقابة للممثلين بدعم ورعاية موصولة من شهيد الوطن فرحات حشاد إذ كان يحرص على الاشراف بنفسه على اجتماعاتها ورفع الصعاب من أمام فنّها.. ومتابعة عروض فرقها في المسرح البلدي فلا يغادره إلا بعد تقديم جزيل الشكر والمساندة لجليل أعمالها وكان من بين أعضاء هذه النقابة: حمدة بن التيجاني القائم بدور المارشال عمار والصحفي المسرحي بن فضيلة وهي لعمري أول نقابة في تاريخ المسرح العربي: فيها مدنية الاعتراف بمهنة الممثل وحفظ حقوقه وفي سنة 1951 بعث مدرسة التمثيل العربي شفعت ببعث فرقة بلدية تونس للتمثيل العربي.. وبعد شراكة بين زكي طليمات وعبد العزيز العقربي على تركيزها أسندت اداتها إلى العقربي خريج معهد روني سيمون بفرنسا فأخرج لها عدة مسرحيات هامة مع التدريس في مدرسة التمثيل لمادتي التمثيل والالقاء فطبق في الحالتين منهجية تحديث العمل المسرحي. وفي سنة 1959 تم تحويل مدرسة التمثيل إلى معهد عال للتمثيل بأمر من إدارة التعليم العالي والفنون المستظرفة وأسندت إدارته إلى الأستاذ حسن الزمرلي إلى جانب إدارته لمدة وجيزة لفرقة بلدية تونس للتمثيل بعد استقالة العقربي من ادارتها وتفرغه للتدريس في المعهد المذكور ثم أدارها علي بن عياد بعد رجوعه من الدراسة في فرنسا. فأحدث فيها نقلة نوعية على مستوى الاخراج فكانت له مسرحيات رائقة نذكر منها كاليقولا ومراد الثالث وأقفاص وسجون وعبر اللامركزية في التعليم والثقافة تمّ بعث تجربة المسرح المدرسي فأحدثت ثورة ثقافية في كيان المسرح التونسي وبدّلت وعمقت زاده المعرفي الفني وتزامن هذا المد مع بعث الفرق القارة للتمثيل: صفاقسالكاف وقفصة وغيرها وتوج ببروز شركة المسرح الجديد فكانت فترة السبعينات صورة حيّة لتألق المسرح التونسي وانتشار ثقافته المسرحية بين العموم في كامل ربوع الوطن إذ كان العرض المسرحي يدخله التلميذ والطالب والجندي بمائة مليم هذا إلى جانب ثراء المحتوى ومتانة الأداء وجودة التقديم. أما مسرحنا اليوم فقد تربع عليه «الفكهاجي» وتزامل على درب الاضحاك السخيف القبيح مع عتلّ مسرح الممثل الفرد «الوان مان شو» وما سوّق من داعر العبارة وفاجر الإشارة لغاية الابتزاز وجمع المال دون وجه حق فأصبح سعر التذكرة لدخول المسرح بعشرات الدنانير فهل يستطيع العامل والطالب وعامة الشعب دفع هذا المعلوم.. وهو السعر الباهض الذي توحدت حوله العروض المسرحية قاطبة.. فجرّدت بذلك المواطن من حقه الثقافي المشروع.. تلك بدعة الشركات المسرحية الخاصة التي قامت بداية من سنة 1994 اثر انقلاب «الروباعية» على مكونات المسرح الوطني فتخلصت من أساتذة المسرح بإحالتهم على وزارة التربية والتعليم ومباشرة حل الفرق القارة وطمس الهواية فتناسلت هذه الشركات وتكاثرت إلى ان وصل تعدادها إلى مائتي شركة جمعت في حشدها المتطفل والهاوي والمحترف وأستاذ الفن المسرحي وتناكب هذا الجمع على منع الدعم على الانتاج وأخرى على العرض وتكدست الرداءة وتصحرت المعرفة ولم يسلم من التيار إلا قلة قليلة مجتهدة.. وواعية ومتمكنة من الحرفة المسرحية الجادة لذا فإن مسرحنا الوطني في خطر والحق الثقافي اندثر.. والمال المهدور وجب توجيهه إلى أصحابه من حملة الشهائد العليا من الشباب العاطل عن العمل لفرصة العمل والكدّ ينتظر..؟