لئن شهد مسرحنا التونسي حالة من الركود أثناء الحرب العالمية الثانية بعد انتشار جمعياته في ربوع الوطن في زمن الثلث الاول من القرن الماضي عبر المريدين لحركة الرواد الاولى ومنها جمعية الكوكب التمثيلي للأستاذ محمد الحبيب كما عرف خليفة السطنبولي بمؤلفاته المسرحية ونشاطه المسرحي بالمنستير والبشير عطية في المهدية والشيخ الكناني تلميذ ابراهيم الاكودي بأكودة وعامر التونسي وغيره بجهة صفاقس والفرجاني منجة بقابس وحسن قرابيبان في بنزرت وانتشر في سوسة والقيروان والكاف وقفصة وغيرها من طريق طلبة جامع الزيتونة والمعهد الصادقي الى حد تحول معاصر الزيتون بالساحل الى مسارح تعرض فيها المسرحيات التاريخية مثل صلاح الدين الايوبي لغاية التورية والتثقيف والتحريض وتوشيح الحفل بالقاء قصائد شعرية لحشد الهمم ويتردد بين جدران هذه المعاصر التقليدية صوت الشابي ونشيد ارادة الحياة والثورة على حياة الرمس وخنوع القبر.. فخرج الشعب التونسي يوم 9 أفريل 1934 يلبي النداء في مظاهرة حاشدة وهو يصرخ ويهتف من اعماق جوارحه «برلمان تونسي.. عاشت تونس حرة مستقلة ابد الدهر».. فتصدت جحافل القوات الفرنسية الباغية بالرصاص لهذه الانتفاضة وسقط العشرات من الشهداء وسال الدم الطاهر الزكي في شوارع العاصمة وتجلت بعد هذه المذبحة الرهيبة القطيعة بين الشعب التونسي والادارة الاستعمارية. وتحرك النضال الثقافي الوطني حين وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها وتدعم بقيام الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة شهيد الوطن فرحات حشاد ثم انفصال النقابات التونسية عن مثيلاتها الفرنسية تجسيما لاستقلال هذه المنظمة الفتية الناهضة بحس الوطن.. عندها لم يتأخر رجال المسرح التونسي في التجمع والمطالبة بمسرح تونسي.. والتشديد على تلبيته فتمت الموافقة عليه.. وعلى ارضيته بعثت فرقة بلدية تونس للتمثيل صحبة مدرسة التمثيل العربي في فاتح سنوات الستينات فجاءت كهيكلية مترابطة بين التعليم والتكوين والانتاج والعرض.. واشرف على البعث الجديد الاستاذ المصري زكي طليمات ومن بعده تداول على ادارة فرقة بلدية تونس كل من حمادي الجزيري لفترة وجيزة ومحمد عبد العزيز العقربي بعد رجوعه من بعثة تربص مسرحي في معهد روني سيون بفرنسا والاستاذ حسن الزمرلي وان كانت فترتي الزمرلي والعقربي حافلة بتطوير العمل الفني وترسيخ وجود هذه الفرقة عبر تدعيم صفوفها بعدد من مدرسة التمثيل العربي وتنويع النصوص المسرحية بين محلية وعربية وعالمية ومعهما اصبح الاخراج في شكله الكلاسيكي مهنة قائمة الذات اما الفنان الملهم علي بن عياد فبعد دراسته في مدرسة التمثيل العربي والتحاقه بالمعهد العالي للفن المسرحي بالقاهرة ثم فرنسا عاد فتولى ادارة فرقة بلدية تونس للتمثيل وتفرغ العقربي والزمرلي لمهنة التدريس في مدرسة التمثيل صحبة محمد الحبيب والطاهر قيقة وغيره.. وفي عهده عرف المسرح التونسي سنة تطوره الفني وتسلحه بأسلوب الحداثة في الاداء والاخراج واختيار النصوص فتدرج في الغاء الوسائل والادوات التقليدية كالملقن والضربات الثلاث ودور الستارة الخارجية وجنح لاستعمال الاضواء والستائر السوداء حصر مشهدية العرض المسرحي وابراز تجلياته وجعل اللباس والقيافة والتأثيث الركحي لوحة تشكيلية تنضح بمقاصد المسرحية تزيدها الموسيقى والمؤثرات الصوتية عمقا ودلالة وقد ساعده في نجاح اعماله ثلة من زملائه من خريجي مدرسة التمثيل العربي بمعية كوكبة من أصحاب التجربة والموهبة نذكر منهم على سبيل العد لا الحصر: جميل الجودي وعبد اللطيف بن جدو ومنى نور الدين والرشيد قارة ونرجس عطية ونور الدين القصباوي وحمدة بن التيجاني ورمضان شطة وانيسة لطفي وعمر خلفة والهادي السملالي ومحمد المورالي ومحسن بن عبد الله وعبد المجيد الاكحل والمنجي التونسي.. وكانت بداية التألق لعلي بن عياد واعضاء فرقة بلدية تونس للتمثيل في مسرحية كاليقولا لالبار كامو صاحب فلسفة العبث والمتحصل على جائزة نوبل للاداب في سنة 1962 والمنافس للفيلسوف جان بول سارتر منظر الوجودية في تلك الفترة وهي المسرحية التي حصدت الاعجاب والجوائز في مسرح الامم كما عمل هذا المبدع على توفير النص المسرحي التونسي فكان تعامله مع الكاتبين الحبيب بولعراس وعز الدين المدني في مراد الثالث وصاحب الحمار.. وفي عهده تمكن كل ممثل في الفرقة من فرصة البروز والتألق فكانت نرجيس عطية آية ابداع في دور يرما للكاتب الاسباني فريدريكو قارسيا لوركا وتلألأت اثناء عرض هذه المسرحية الرائعة في اوبرا القاهرة. وكذلك كان الحال مع حمدة بن التيجاني في الماريشال عمار صحبة صف من زملائه من ابطال هذه الفرقة واوتاد نهضتها وتجليها ومتانة القدرات الفنية عند ممثليها. وعبر كم هائل من المسرحيات الجادة الجيدة الحاملة للقيم الانسانية الخالدة تمكن النابغة علي بن عياد كثاني اثنين بعد الشابي من تأسيس صرح المسرح التونسي ورفع رايته بين مسارح الامم.