يقدر البنك الدولي دفع الرشاوى بحوالي ألف مليار دولار سنويا، ووفقا لإحصائيات الأممالمتحدة، هناك أكثر من أربعمائة مليار دولار سُرقت من أفريقيا وحدها وتم تخزينها في بلدان أجنبية. وحسب تقارير منظمة الشفافية الدولية فإن معظم دول الاتحاد السوفياتي(سابقا) وبلدان آسيا الوسطى والكثير من دول أمريكا اللاتينية والبلدان العربية والأفريقية تواجه تحديات في المحافظة على مستويات عالية من الشفافية والوضوح، فيما اعتبر الصومال والعراق وأفغانستان البلدان الأكثر فسادا في العالم خلال السنوات الأخيرة. ويؤكد عديد المفكرين والدبلوماسيين والمحللين أنّ لجماعات الضغط والمصالح الخاصّة سطوة كبيرة على صناع القرار السياسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية التي حلت في المرتبة 18 خلال السنة الماضية في ترتيب أقل الفاسدين عالميا بمقياس الشفافية الدولية. ومن آخر الفضائح في هذا البلد المتقدم والمتطور إلقاء القبض، مع نهاية شهر جويلية 2009، على أكثر من 40 شخصا، بينهم ثلاثة رؤساء بلديات من ولاية نيو جرسي، وعضوان من برلمان الولاية، وعدة حاخامات، في عملية واسعة لمكتب التحقيقات الفيدرالية( أف بي أي) في إطار تحقيق بشأن الفساد وغسيل الأموال. وركزت التحقيقات في الأصل على شبكة لغسيل أموال بلغ حجمها عشرات الملايين من الدولارات من خلال جمعيات خيرية يديرها حاخامات في نيو جرسي ونيويورك المجاورة، فالفساد هو نمط حياة هؤلاء المتهمين، وثمّة تقارير تقول بأنّ شبكة غسيل الأموال هذه امتدت عبر الولاياتالمتحدة وسويسرا لتصل إلى إسرائيل. وهذا دليل آخر على أنّ الفضائح والجرائم السياسية والاقتصادية والمالية ليست منتشرة في البلدان النامية الفاسدة والمستبدة لوحدها، بل تظهر أحيانا في دول أكثر تطورا وتقدما حيث الفساد أقل استشراءً. قبل الدخول في تشخيص ومعالجة ظاهرة الفساد، أودّ جلب انتباه أعزائي القراء، إلى أنّ الرّد الفعّال على الفساد يبدأ باعترافين لا غنى عنهما: أولاً، أنّه ما من نظام أو مجتمع مُحصّن ضد الفساد، وثانياُ، أنّ الحكم السيئ منبع الفساد، والعكس غير صحيح، أي أنّ وجود الفساد لا يعني بالضرورة أنّ الحكم سيئ. ففي البيئة السياسية السيئة يصرف الأفراد والشركات الوقت والموارد في الأعمال الفاسدة، بدلا من النشاطات التي تعزز النمو وتحدث مزيد التشغيل وتخلق عالم الرخاء. وفي الحكم السيئ غالبا ما ُتحوّل الشركات الاقتصادية والمؤسسات المالية إلى وسيلة سهلة للإثراء غير المشروع، وأداة لتشويه النسيج الاجتماعي، وتعميق الفوارق الطبقية لصالح نخبة استأثرت بالمال والسلطة على حساب الأكثرية. وفي البيئة السياسية السيئة لا يُفرض تطبيق القوانين والأنظمة بصورة دائمة ونزيهة وشفافة، بل لا يكون القانون هو المّهم بقدر الشخص الذي تعرفه وما أنت مستعد أن تدفع له. والملاحظة الثانية في موضوع الفساد، الذي كان يمثل إلى حدّ أوائل تسعينات القرن العشرين ظاهرة متفشية لدرجة أن معالجتها كادت تشكل تحدياً لا يمكن التغلب عليه، هو أنّ معظم بلدان العالم وخاصة البلدان النامية، ومن ضمنها البلدان العربية، لم تكن راغبة لا في الحديث ولا في البحث في موضوع الفساد، وكانت تعتبره مشكلة داخلية وحسب؛ إلا أنّ المجتمع الدولي شهد، منذ أكثر من عقد من الزمن، تغيراً ملحوظاً وإيجابياً في محاربة الفساد على النطاق العالمي. فمكافحة ظاهرة الفساد التي كانت تعتبر حتى أوائل تسعينات القرن المنصرم ضمن مجال اختصاص حكومة كل دولة بمفردها، أصبحت خلال السنوات الأخيرة شأن المجتمع الدولي الذي بات يعمل سوية بمثابة المتمم والمساعد لجهود الحكومات في هذا المجال. سنخصص الجزء الأول من هذه الدراسة إلى تشخيص أشكال وتداعيات وتكاليف الفساد، وسنعالج في الجزء الثاني سبل التخلص من الفساد عبر إحداث بيئة سياسية نظيفة، وسنّ القوانين والمعايير للتصرف الجيّد، وبعث أجهزة رقابة قوية لرصد وردع جيوب الفساد، وتشريك مكونات المجتمع المدني في معركة استئصال الفساد. إضافة لشركاء التنمية الذين باتوا اليوم يبذلون جهودا أكثر حزما من أجل تعزيز مشاطرة المعلومات المالية المشبوهة، وتطوير ممارسات أفضل لكشف ومصادرة الأموال المسروقة، وتأمين مساءلة أكبر حول مساعدات التنمية للمتخلفين. وكذلك عن طريق الآليات المتعددة الأطراف التي أنشئت خصيصاً لمعالجة مشكلة الفساد كميثاق الأممالمتحدة لمكافحة الفساد، وميثاق منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لمحاربة رشاوى الرسميين الأجانب في الصفقات التجارية الدولية، ومبادرة منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ لمكافحة الفساد، وميثاق الاتحاد الأفريقي لمنع ومكافحة الفساد! ماهية الفساد وأشكاله يُعتبر فساد كل طلب أو عرض لعمولة غير مستحقة أو لمنفعة غير مشروعة تؤثر على الممارسة الطبيعية للوظيفة سواء على مستوى الشركات والمؤسسات، أو على مستوى جهاز الدولة، أو حتى على مستوى العلاقات التجارية والمالية بين الدول. فتوزيع الحقائب الإدارية في الشركات الاقتصادية والمؤسسات المالية بين المقربين المبتزين والانتهازيين المضللين، وتهميش العديد من الكفاءات، فساد. وتحويل نصيب من الرسوم والضرائب التي يجمعها جهاز الدولة من الشركات والمواطنين كإيرادات لميزانية الدولة إلى حسابات خاصّة، فساد. الأول فساد محدود المساحة والثاني فساد واسع النطاق. إذن يمكن تقسيم أشكال الفساد، الايجابي «الذي يعطي» والسلبي «الذي يتقبل»، إلى صنفين حسب مرتبة الفاسد وحسب حجم وتكلفة الفساد اجتماعيا واقتصاديا وأمنيا. إطار بنكي حقوقي نقابي باحث وكاتب صحفي (متخرج من كلية الاقتصاد بجامعة سترازبورغ)