كنا صغارا.. وكانت الأفكار كبيرة. كنا صغارا، وكان الزمن زمن ثوابت ومبادئ.. كبرنا.. وانقلب كل شيء.. الأفكار الكبرى ظلت تصغر وتصغر.. والثوابت خضعت لناموس المتحرك.. والمبادئ صارت بضاعة تباع وتشترى في بورصات المصالح وفي مزادات السياسة.. كنا صغارا.. رضعنا حليب الكرامة قبل الخبز.. كبرنا ورأينا التحولات تقلب كل شيء.. ورأينا كيف يصير الخبز قبل الكرامة وكيف تلوى أعناق الرجال والنساء المحترمين وتحنى الهامات من أجل رغيف الخبز.. كنا صغارا.. وكبرنا على قناعات.. فلسطين عربية.. ثورة حتى النصر.. حتى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.. كبرنا وظلت خارطة فلسطين تتقلص.. احتلال.. استيطان.. تهويد.. غطرسة وعربدة.. رتع الصهاينة فيها بالطول وبالعرض.. حوّلوها إلى قطع جبن سويسرية.. جدران.. بوابات.. عسس.. حرس.. والوطن يصغر ويصغر ليأخذ حجم محميات قادمة من زمن الهنود الحمر الغابر.. أولئك الذين سقطوا من غربال التطهير العرقي ومن «تسامح» الرجل الأبيض.. وقادمة أيضا من زمن الميز العنصري في جنوب إفريقيا قبل أن يحطّمه ذلك الرجل الأسطورة.. مانديلا الذي علّم النضال أسس وقواعد الثبات والتماسك.. وعلم الحرية كيف تصمد في وجه الجبروت وكيف تقهر ظلمة الليل وتكنسها بشمس الحق.. كنا صغارا.. وكان الوطن الكبير، يكبر أمامنا حلما جميلا مجاله من المحيط إلى الخليج.. كبرنا وتاه الحلم وتفرّق الأشقاء.. زادتهم الأيام والمحن فرقة على فرقة.. وازدادوا ضعفا على ضعفهم.. وهان البشر والوطن ونكّست الرؤوس تنتظر مرور عاصفة لا تريد أن تمر.. وصار الوطن الكبير كبقرة على موائد اللئام.. هذا يقطع.. هذا يشوي.. ذاك يحرق.. لقد بشموا وما تفنى العناقيد.. كنّا صغارا.. وكانت ريح طيبة تأتينا من هنا وهناك.. آخر عهدنا بالرياح الطيبة أتتنا من مدينة المنصور بغداد بعد قاهرة المعز.. هناك أشعلت شمعة أمل في ليل العرب الدامس.. هناك نبتت تجربة علمية وضعت العرب على أولى درجات السلم.. بالعلم بعد الايمان باللّه، نأخذ بالأسباب.. أسباب التقدم والرّقي فنبني نهضتنا ونستعيد أمجادنا الغابرة.. هبّت العواصف والرياح العاتية.. لم تصمد الشمعة.. انطفأت الشمعة.. كان ظلم الاعداء مرّا جبّارا، حاقدا.. وكان ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.. بغداد التي حدثتنا عن طلوع شمس العرب وعن عودة فلسطين من النهر إلى البحر سقطت نهبا للذئاب.. بغداد ما عادت بغداد.. كأن لم يسكنها الرشيد.. وكأن لم يتحدّ منها السحب العابرات: امطري حيث شئت، فخراجك لي.. كبرنا ولم يبق العراق عراقا.. أين كان هؤلاء.. وأين سكن وعشّش كل ذلك الحقد.. وأين فرّخت كل تلك العمائم وكل تلك الخيانات.. كبرنا وماتزال كرة النار تتأجّج.. وتتدحرج.. فقد نامت نواطير العرب وما شبعت الثعالب والذئاب.. كنا صغارا.. رضعنا حليب «ارفع رأسك يا أخي».. بدأنا نكبر وبدأت الرؤوس تنحني.. وبدأت الهامات الشامخات تذوي.. في نصفنا الأسفل نبت داء عجيب.. استلهاما من تنكيس الرؤوس.. بدأت تنكس السراويل.. فتنزل على أرداف الشباب.. شبابنا العربي الذي لم يعد على ما يبدو ونعني له شيئا أن يصاب السروال بداء تنكيس الرؤوس.. كبرنا وكبرت معنا البلية.. دفنّا مقولة «ارفع رأسك» مع تنكيسة رؤوسنا في الرمل ونحن نرى أحلامنا تتبخر ومبادءنا تنهار وأفكارنا الكبرى تتلاشى.. صار مطلبنا وقف نزيف الانهيارات.. لن نقول «ارفع رأسك يا أخي».. يكفينا في هذا الزمن العربي الأغبر أن نقول «ارفع.. يا أخي» عسانا ننتبه إلى أن الغد الأفضل والمستقبل المشرق تصنعهما «الرؤوس».. والسراويل.. المرتفعة.