توفي الوالد تاركا تسعة أبناء ووالدتهم أغلبهم على مقاعد الدراسة تجلّدت الأم بالصبر واحتضنت أبناءها حتى أن احدى القريبات قالت لها يوم العزاء: «ماذا ستفعلين يا زهرة لتربية أطفال عمرهم يتراوح بين السنتين و14 سنة؟». وتمكنت الأم من تجاوز الصدمة لتربّي الأبناء بإمكانيات أقل بكثير مما كانت تتمتع به العائلة في حياة الشهيد عبد الرحمان مامي الذي كان الطبيب الاول للباي. وغابت سلطة الاب في مراقبة نتائج الدراسة ومتابعة دفتر الاعداد وتراجعت المعدلات رغم حرص الأم على مواصلة تعلّمهم. وهنا ذكر السيد منذر قائلا : «كنا العائلة الوحيدة التي ضحّت بشهيدين من عائلة واحدة وهما طاهر مامي وعبد الرحمان مامي وكلاهما كانا ضحية اليد الحمراء التي مارست قانون الغاب خلال حقبة الحماية الفرنسية وكانت مكلفة بمتابعة الوطنيين وتصفيتهم الواحد تلو الآخر». وأضاف: «بعد اغتيال الوالد عشنا بإمكانيات مادية ضعيفة جدا وحرمنا من أشياء عديدة ما كنا لنحرم منها لو كان الوالد حيا كما حرمنا من حبه وحنانه خاصة و انه كان أبا حنونا جدا وحريصا على تخصيص وقت لرعايتنا رغم مشاغله كطبيب وكعضو في الحركة الوطنية. عبد الرحمان مامي الطبيب والسياسي المناضل حتى الشهادة أثّر على شخصية ابنه منذر مامي حيث التحق بشعبة المرسى منذ ان كان عمره عشر سنوات وحتى اليوم مازال ينشط من خلالها. عبد الرحمان مامي الطبيب هو أصيل المرسى حيث درس بها وبعد ان بلغ الباكالوريا وفي غياب التعليم العالي بتونس دخل للعمل بمستشفى ولكنه شعر بالإهانة من ادارة الحماية فنزع «البلوزة» البيضاء وألقى بها على المكتب قائلا: «لن أعمل في تونس الا بعد اتمام دراستي في اختصاص الطب». وتابع حسب السيد منذر مامي دراسته بالخارج وكان مستواه العلمي جيد جدا حيث كان يدعى Ancien externe. ثم دخل على اثر الدراسة الى المستشفى واختص في الامراض الصدرية ومكافحة السلّ. وأضاف محدثنا ان الشهيد عاد الى تونس وكان من الأطباء القلائل جدا فيها ومكّنته العلاقات العائلية بالكثير من البايات الى جانب كفاءته في الطب من معالجة الامين ماي قبل تولّيه الحكم ثم لما تولى الحكم اقترحه المرحوم الهادي الرايس لما سُمّي وزيرا للتجارة ان يكون هو الطبيب الاول للباي حسب القانون. واهتمت حينها الصحافة التونسية بتغطية الحدث كأول طبيب تونسي يحظى بهذه الثقة الكبيرة. وأشار السيد منذر مامي الى ان الشهيد كان له تأثير كبير على الباي وكانت تربطهما علاقة وطيدة الشيء الذي دفع بالسلطات الفرنسية للتخلص منه بصفة مبكرة حتى لا يؤثر على الباي في تنفيذ قراراتهم سيما وأن طبيب الباي في ذلك الوقت يتمتع بثقة العائلة ويقدّم لهم خدمات ذات بعد نفسي وصحّي واجتماعي حيث تقع استشارته حتى في أمور الزواج. وكان الأمين باي حريصا على الالتقاء به يوميا للسهر معه خاصة أيام رمضان ثم يحرص على اصطحابه ب«الكرّوسة» الى المنزل رغم طول المسافة بوسيلة النقل هذه مقابل عدم تجاوزها عشر دقائق بالسيارة. وحريصا ايضا على الضغط على منبّه السيارة كلما مرّ بالقرب من منزلنا وكأنها شكل من أشكال التحية ومراعاة الجانب الانساني في العلاقة بين الباي وطبيبه الاول. طبيب الفقراء كان يلقّب بطبيب المرسى الى جانب طبيب الباي ثم لقّب بطبيب الفقراء لما فتح عيادته ب5 نهج المحرزي بباب سويقة حيث كان يعالجهم مجانا. وكانت العيادة مجاورة لصيدلية المرحوم محمد بن حمودة التي كانت مقرا للمحامين كالحبيب بورقيبة والمنجي سليم اللذان يقيمان فوق الصيدلية ومحضر صيدلي اسمه الناصر مخلوف. وأفاد السيد منذر أنه يتم غلق الصيدلية بين الساعة الواحدة والساعة الثانية زوالا لتجتمع الحركة وتصدر بعض القرارات. وهكذا كان الشهيد حسب ابنه شهما في أداء واجبه كطبيب يراعي الجانب الانساني والوطني. ومن جهة أخرى أشار الى أن علاقته الوطيدة بالأمين باي وقربه منه مكّناه من التعرّف على القرارات التي يرغب المستعمر في اتخاذها والتأثير على الباي بعدم الموافقة على تلك القرارات ومنها فترة تشكيل الحكومات حيث كان الفرنسيون يقرّرون والباي يوقّع وحينها كان الشهيد لما يعلم بأمر امضاء الباي يغضب كثيرا ويقرر عدم الذهاب اليه. ومن الأشياء التي انطبعت في ذاكرة الجميع هي حادثة تسميم الأمين باي حيث اكتشف الامر وحذّره من تناول الدواء ثم ناداه الدكتور خالد وطلب منه ان يضع السم على لسانه فثبت انه سمّ ومن ثمة كلّف الباي الدكتور عبد الرحمان مامي برفع قضية على فرنسا بسببمحاولة تسميمه فكان ذلك. وختم السيد المنذر مامي حديثه بأن نهاية والده على يد الحركة الارهابية «اليد الحمراء» وبورقيبة دشّن شخصيا مستشفى أريانة الذي يحمل حاليا اسمه.