حين تأكد لي ان قناة «الجزيرة» ليست هي القناة المثالية التي يفتقر اليها الوطن العربي، ويحتاجها المثقف المتحرر من كل الانتماءات سوى ما يقنع عقله وضميره، عبّرت عن رأيي هذا منذ سنوات في مقال نشرته في جريدة «العربي» المصرية عدد 1166 وقد انتقدت فيه أحمد منصور بالذات، عمّا كان يبثّه من مغالطات خاصة في برنامجه «شاهد على العصر» الذي استدعى فيه رئيس حكومة اليمن السابق. وكان يضغط عليه ليدين تاريخ الزعيم جمال عبد الناصر، بل كان منصور هذا في مثل هذه المناسبات ينصّب نفسه حاكما على العهد الناصري، ويصفه بأشنع الأوصاف، وبأخطر التهم بطريقة مكشوفة تخلو من أبسط قواعد الحياد الذي تُشترط في الاعلامي النزيه. بل اكتشفه معظم مشاهدي قناة «الجزيرة» «بوقا» للإخوان المسلمين، إن لم يكن داعية لهم في هذه القناة مع الأسف. ثم شاءت الصدف بعد صدور مقالي في «العربي» ببضعة أسابيع أن ينال «علقة» تأديبية من بعض الشباب وهو في أحد شوارع القاهرة... لا شك ان هذه الحادثة التي أعلن عنها بنفسه، في قناة «الجزيرة» كانت بسبب ما كان يُبديه من عدوان وتشويه للتاريخ الناصري، وهو ما يدلّ على أن الشعب المصري لم يكن كله جاحدا للزعيم جمال عبد الناصر، بل هناك أحد مثقفيه قال لي ما معناه: «يكفي جمال عبد الناصر أنه أول من زرع بذرة الكرامة في عقلية المواطن المصري... بل يكفي جمال عبد الناصر انه بنى «السد العالي» الذي لولاه لتعرّض الشعب المصري الى المجاعة خلال العقود الماضية...». نعود الى قناة «الجزيرة»... قلت إنها مع الأسف لم تكن القناة التي يبحث عنها المواطن العربي، فخاب ظن الكثير من مشاهديها في توجهها الاعلامي الذي بدا فيه كثير من الريب. ومع ذلك اتصل بي مراسل الجزيرة بالمغرب يوم 19 فيفري الماضي بقاعة المعرض الدولي للكتاب في الدارالبيضاء، وطلب مني تسجيل حوار حول الكتاب المغاربي ومسالك توزيعه، ومدى استفادته من المعارض بشكل عام وبعض الاسئلة الاخرى البريئة... كان هذا اللقاء في البداية في أروقة المعرض، فاقترحت عليه ان يتم التسجيل في جناح اتحاد الناشرين التونسيين وكان يشرف عليه السيد علي الفندري. كنت أثناء التسجيل صريحا وموضوعيا في أجوبتي، الى أن سألني قائلا: كيف تُعلّق على ما يقال من أن الحكومة التونسية تمنع بعض الكتب من التوزيع؟ ألا ترى في ذلك قمعا لحرية التعبير؟ في تلك اللحظة كانت الكاميرا تركز اضواء على «مذكرات ناشر» هو آخر اصداراتي، فأجبته بعفوية : من قال لك هذا الكلام ؟ وتناولت الكتاب المذكور، وقلت له : هذا الكتاب بالذات صدر منذ حوالي سنة، وقد انتقدت فيه عددا من الشخصيات الثقافية والسياسية، ومع ذلك فها هو أمامكم ليس ممنوعا لا في تونس ولا في غيرها. وأضفت معلومة يفتخر لها كل تونسي : وأفيدك بما يعتبر كسبا للكتاب التونسي ولحرية التعبير بشكل عام، انه منذ حوالي سنتين صدر أمر رئاسي بعدم حجز الكتب، وقد أصبح هذا الإجراء ممنوعا تماما، أما الاجراء السائد في تونس، هو اذا لحق ضرر لأحد الأشخاص من كتاب ما، فالقضاء له القول الفصل في هذه المسائل .. استمر اللقاء بين التصوير والحوار حوالي ست أو سبع دقائق.. أبدى مراسل الجزيرة ارتياحه، وأعلمني بأن البث سيقع غدا، اي يوم 20 فيفري على الساعة التاسعة بتوقيت المغرب.. انشغلت بالمواعيد فعدت الى غرفتي في الفندق بعد موعد البث، مما حرمني من مشاهدته الا انه في اليوم التالي أخبرني السيد الفندري الذي كان حاضرا أثناء التسجيل، بأن الحوار الذي عرض كان مبتورا ولم يعرض منه الا القليل، اضافة لما اعاده لي بعض الأصدقاء الذي شاهدوا البث أثناء حصة الأخبار، تبين لي بصورة لا يشوبها ريب، ان قناة «الجزيرة» تصطاد في الماء العكر.. اذ حذفت كل أقوالي عن عدم حجز الكتب في تونس مهما كانت مواضيعها فتأكد لي ما كنت أتشكك في تصديقه تماما، من أن قناة «الجزيرة» تبحث عن السلبيات فقط، وكأن لها موقفا مع تونس أو تصفية حساب، بعد هذا الاقتناع، أقول للإخوة المشرفين على هذه القناة العربية، أن لا تفقد مصداقيتها تماما مع مشاهديها .. وأردف : أين الأمانة الاعلامية ؟ مرة اخرى، أقول لهم قول النصح : فحين تعملون على ابراز الرديء فقط، يكون دوركم، أقل ما يقال عنه إحباط العزائم .. أما حين تبلغون المعلومات السلبية والايجابية بصدق عن بلد ما، تكونون قد خدمتم مشاهديكم، واقتربتهم خطوة من الأمانة الاعلامية الصعبة المنال في هذا العصر العربي المرتد .. حسن أحمد جغام (الدارالبيضاء)