(1) السؤال ليس في معرفة ما إذا كانت اللّغات تموت لأنها تموت لا ريب في ذلك، ولكن السؤال هو لماذا تموت اللّغات؟ لأنها كائن حيّ، يصيب اللغات ما يصيب كل كائن حي من وهن وكبر فتشيخ وتقضى. وقد تموت اللغات إثر مرض يسبّبه لها سوء التغذية إما بإفراط أو بتفريط، إما بإملاق أو ببشم، وقد تموت كذلك بسبب الانغلاق أو بعكسه أي بالانحلال. واللغات على صورة ناطقيها فكيفما كانوا كانت فإذا ما طمحوا لنيل العلا كانت هي السبّاقة للتعبير عن ذلك الطموح وإذا ما ركدوا أو استكانوا تراجعت هي وخبت نارها، وإذا ما انقرضوا كانت أولى من ينعاهم. (2) وموت اللغات ليس أمرا خياليا بل هو واقع ملموس بل وعادي فكل سنة تموت حوالي ثلاثين لغة وتختفي من خارطة لغات الانسانية، ويبدو حسب أحدث الدراسات الألسنية أن ما يفوق نصف اللغات المتداولة اليوم أي ما يزيد عن الثلاث آلاف لغة مهدّدة بموت بطيء(). قد يقول البعض إن وفرة عدد الناطقين بلغة ضامن لبقائها وقد يقول البعض الآخر إن ارتباطها بمقدسات أو حملها لكتاب سماوي كفيل بديمومتها، غير ان التاريخ أثبت خلاف ذلك فلقد ماتت اللاتينية وإن بقيت في ذاكرة عديد اللغات الغربية رغم أنها كانت لغة امبراطورية عتيدة ومترامية الأطراف، وماتت العبرية وإن أعادها المخطط الصهيوني إلى الوجود. إن شرط خلود أي لغة ودوام تدفّقها رهين قدرة هذه اللغة على انتاج المعنى، وحتى تكون كذلك لا بدّ للغة أن تستند إلى مشروع حضاري قوامه العلم والعدل والحرية. (3) وإذا ما نظرنا في تاريخ لغتنا العربية لاحظنا أن انتشارها المذهل واتساع رقعة ناطقيها واختلاف أجناسهم في فترة زمنية لم تتعدّ القرن من الزمن إنما يعدّ معجزة لا يمكن فهمها دون اعتبار المعجزة الأكبر، وهي القرآن. القرآن ومن ثمة الإسلام والقدرة العسكرية والعلم كلها عوامل ثلاثة مجتمعة ومتحدة جعلت من اللغة العربية لغة الحضارة الإنسانية لثمانية قرون متّصلة كانت لغتنا خلالها تنتج المعنى، تقدّم ما يسمو بفكر الإنسان وبروحه وما يمكّنه من استثمار الأرض والبحر وما يعينه على دفع الآلام والخوف، فكانت الآداب والفنون وكانت التقنيات والصناعات وكان الطبّ والفلسفة. ولم يتردّد العرب وقد ثبت إيمانهم واكتمل وعيهم برسالتهم الحضارية أن يتخاطبوا مع الآخر وينفتحوا عليه حتى وإن لم يكن هذا الآخر مسلما ولم يتوانوا عن طلب العلم ولو كان في الصين،، ولعلّ في بناء بيت الحكمة من طرف الخليفة العباسي المنصور في بداية القرن التاسع ميلادي من قوة الرمز ما يكفينا معونة التدليل على إدراك قداسة رسالتهم فأقدموا بكل ثقة واعتداد على سقي نبتها بكل ماء صالح فنقلوا ولخصوا كل أو جلّ نصوص الفلسفة والطب والمنطق والموسيقى وعلم الفلك والحسابيات وترجموا واقتبسوا من الاغريقية والبهلوية والعبرية وكان من الأعلام الذين تأثروا بعلمهم إفلاطون وأرسطو واقليدس وبلوطين والارييا باهاتا الهندي وغيرهم. ولقد أعطى هذا الزخم من النقل والترجمات والاقتباسات للغة العربية قدرة صنع العلم وإثمار المفاهيم وفي كلمة: انتاج المعنى، حتى ان عالما مثل البيروني كان يقول إنه أفضل إليه أن يُشتم بالعربية من أن يُمدح بالفارسية لفرط حبّه وتقديره للغة الضّاد. (4) والتفتّح ليس الانحلال الذي يسببه الفقر الثقافي ويبيحه الاستسهال ويكرسه الكسل. وقد يكون كل ذلك سببا فيما أصبحت تعانيه لغتنا من تهجين أثار حافظة رئيس الدولة نفسه الذي دعا إلى بذل الجهد لتخليص لغتنا من هذه الازدواجية اللفظية التغريبية وإعادة النقاوة لها بما يدعم جماليتها وقدرتها على التعبير والتبليغ. ولا شك ان ذلك من مسؤولية أهل الثقافة والابداع إذ هم مطالبون بانتاج الأعمال الهادفة الراقية القادرة على توليد خصب لغتنا بما يجعلها قادرة على التعبير عن مشاغل الناس وتطلعاتهم وانصهارهم في ديناميكية التحديث وعلى إبانة تصوراتهم وتطلعاتهم حاضرا ومستقبلا. إننا نحتاج اليوم إلى مبدعين في الفكر والأدب بل إلى صيادين يثبتون قول حافظ إبراهيم على لسان لغتنا: أنا البحر في عمقه الدر كامن فهل سألوا الصياد عن صدفاتي (5) وفي الحقيقة فإنه ليس أخطر على لغتنا العربية من التهجين الفرنكو آراب هي تلك الاستقالة أمام أشباه العلماء وفقهاء تلفزيون البترول فنقبل دون مساءلة ما تقدمه «دروسهم» من مسلمات يبررونها وذلك هو الأدهى باسم الموروث الاسلامي. سمعت وشاهدت أحدهم أخيرا يؤكد ويلح في التأكيد على مطابقة الشورى بالديمقراطية فقلت بعد دفع اللّه ما كان أعظم إنها واحدة من اثنتين: اما ان هذا «الشيخ» آفاق من سُبات قرون مثل أهل الكهف فلم يعلم تطور التاريخ وإما أنه يخدعنا وهو الاحتمال الأقرب وهو يعلم أن الشورى تحيل على نظام حكم يقوم على أهل الحل والعقد في حين أن الديمقراطية ترفض هذه القوامة لتعطي السلطة للشعب. إن مثل هذا الخطاب المتخلّف هو أقصر السبل لتجميد لغتنا وإفشاء الفُصام والسكيزوفرنييه في صفوف ناشئتنا. إننا اليوم نحتاج إلى أكثر من وقفة للتفكير في النهوض بلغتنا.