أشرنا في الأسبوع السابق الى أنّنّا كنّا ننتظر من المثقّفين الذين حضروا الاجتماع التحضيري الذي انعقد في بيروت للاعداد للقمّة الثقافية أن يجدّدوا الدعوة الى استئناف المشروع الذي بدأه رجال النّهضة والقاضي بتطوير أساليب تدريس لغتنا وتيسيرها خاصّة أنّ الدرس اللّغوي ظلّ في مؤسّساتنا التعليميّة محافظا بل متزمّتا لا ينفكّ يستعيد الدّرس اللغويّ القديم الذي لم يلق بالا للّغة في تطوّرها وتحوّلها واكتفى بالاحتفاظ بلغة عصر من العصور خلع عليها قداسة متوهّمة، معتبرا كلّ خروج عليها تدهورا ووقوعا في الخطإ. ونضيف اليوم أنّنا كنّا ننتظر أيضا من هؤلاء المثقّفين الذين حضروا الاجتماع أن يلفتوا النظر الى السبب العميق في انكفاء لغتنا وربّما في تراجعها والذي « يكمن في اللغة ذاتها قواعِدَ وأساليبَ وموازينَ جامدة أدّت الى النفور منها ، و اتّساع الشقّة بينها وبين أهلها « كما أوضح ذلك الباحث هادي نهر، أي أنّه لا يكفي القول انّ علينا تيسير لغتنا بتيسير مناهج تدريسها وانّما علينا أن نصعد الى جذور المشكلة ، و أن نعيد النّظر في العديد من قواعد اللّغة العربية وموازينها التي تحجّرت وباتت عبئا على اللغة ، وعلى أهلها. والواقع أنّ هذه الدّعوة الى اعادة النّظر في قواعد اللغة وموازينها ليست دعوة جديدة، كما أشار الباحث وانّما هي دعوة قديمة... فقد دعا الجرْمِي على سبيل المثال الى منع اجراء التنازع في الأفعال التي تتعدّى الى أكثر من مفعول ، وثار القرطبي على نظرية العامل.. لكن اللغويّين لم يأبهوا لهاتين الدّعوتين و ظلّت لغتنا عصيّة على الاصلاح ، عصيّة على التطوّر. ان الغاية من هذه الدّعوة المزدوجة: الدّعوة الى تيسير أساليب تدريس اللغة، و الدعوة الى مراجعة قواعد اللغة وموازينها هي رأب الصدّع بين اللغة والناطقين بها ، بين اللّغة وحركة التّاريخ، بين اللّغة ونبض الواقع.. فلا حياة للّغة يقتصر استخدامها على قلّة قليلة من « المتعلّمين « ولا حياة للّغة تحيا داخل أسوار المدارس، و لا حياة للغة يفزع اليها أهل الأدب فيما ينفر منها أهل العلم والفكر والتقنية. انّ اللغة ليست مجرّد أداة يمتلكها الانسان الى جانب أدوات أخرى.. كلاّ.. انّها طريقة حياة وأسلوب تفكير. ونحن حين نحوّل اللّغة الى مجرّد وسيلة نكون قد احتفظنا بأبسط وظائفها فيما استبعدنا وظائف أخرى أولى بالعناية والنّظر ، أعني الوظائف الروحيّة و النّفسيّة و الثقافيّة أشارت منظمة اليونسكو في تقريرها العامّ الى انقراض ثلاث لغات كل عام تختفي من وسائل الاعلام و الكتب، وتصبح مجرد ذكرى بعيدة، كما أشارت الى أن هناك 6700 لغة في العالم نصفها مهدّد بالموت اذا لم ينهض الناطقون بها باتخاذ الاجراءات اللاّزمة لحمايتها.. والغريب أنّ اللّغة العربية هي احدى هذه اللغات الآيلة الى الانقراض في تقرير اليونسكو. ألا تكفي هذه النبوءة المروّعة الى تحفيزنا الى النظر الى المسألة اللغوية نظرة فاحصة، نظرة جادّة ، نظرة متأنّية. علّق الكاتب هاشم صالح على تقرير اليونسكو قائلا: هل يعقل أن تكون لغة الضاد هشّة الى مثل هذا الحدّ؟ هل يعقل أن تكون اللغة التي أكتب بها هذه السطور حاليّا هي لغة ميّتة أو شبه ميّتة أو مرشّحة للموت؟ معنى ذلك أنني شخص ميّت لأني أكتب بلغة ميّتة. و لا أعرف لماذا لا أقبر نفسي و أنا حيّ؟ خسرنا كل المعارك، فقدنا كل شيء في السّنوات الأخيرة، خسرنا الأرض والتّاريخ والجغرافيا... و الآن جاء دور اللّغة. حتّى اللّغة لم تعد مضمونة ! ننتظر أن تكون القمة الثقافية القادمة قمة انقاذ لغتنا، أي قمّة انقاذ ثقافتنا، أي قمّة انقاذ هويّتنا.