مخطئ من يعتبر أن التعهّد الذي قطعته واشنطن على نفسها بتعطيل التصويت على مشروع قرار يعتبر «ما حدث للأرمن» في العقد الثاني من القرن العشرين «إبادة جماعية» دليل ضعف وهوان أمريكي تجاه أنقرة. صحيح ان واشنطن تخشى من انفراط حبات «الناتو» لصالح المحور المقاوم في الشرق الأوسط وترتاب من خسارة حليف استراتيجي لا تنفك قوته تتضخم يوما بعد يوم.. بيد ان المغزى من تعطيل القرار في الكونغرس بعد تمريره في لجنة الشؤون الخارجية يتنزل في صميم سياق العلاقات السياسية والاستراتيجية بين أنقرة والغرب ممثلا في الولاياتالمتحدة والكيان الصهيوني. ذلك ان مجرّد محافظة واشنطن على «نصف قرار» يدين أنقرة بارتكاب جرائم إبادة ضد الأرمن مع ما يتضمنه هذا الأخير من تهديدات بالتعويض المادي والمعنوي للضحايا المفترضين يمنحها ورقة ضغط تستعملها ضد أنقرة وتلوّح بها كلما رأت ان تركيا تنأى بنفسها عن سياسة «حلف الأطلسي» وتزداد عداوتها للكيان الصهيوني. هي إذن سياسة ابتزاز صرف تقايض ماضي أنقرة بمستقبلها الاستراتيجي.. وترهن محددات الرؤى السياسية التركية ب «جرائم مفترضة» او مفترأة. العجيب ان واشنطن لم تلعب هذه الورقة الشيطانية على الرغم من استنجادات الأرمن منذ نصف قرن الا في ذات الظرف الذي بدأت فيه تركيا انتهاج سياسة فريدة في المنطقة قوامها المحافظة على النهج البراغماتي والدفاع عن القضايا العادلة في المنطقة العربية والاسلامية. الجديد، في «الضغط» الأمريكي الناعم، انه تحوّل من نبش تاريخ الأعداء «العراق... (حلبجة... الانفال..) سوريا... قرية حماة» الى الحفر في ماضي الاصدقاء.. مع ما يعنيه هذا الأمر من تأكيد بالمسلمة القائلة بأن لا أصدقاء للأمريكان وإثبات بأن الأصدقاء بدؤوا ينفضّون عنها تباعا. والمثير في كل هذا، ان تركيا أردوغان لا ترد السيئة بمثيلتها.. وتستعيض عن العودة الى الأرشيف بسكوت وصمت الكبار. هي تعرف ان جرائم الأمريكان منذ القرن 18 كثيرة للغاية ولا تعد.. وهي تعلم أنهم أسسوا دولتهم على جماجم الهنود الحمر.. وتدرك ان فظائعهم لا تزال مستمرة الى الحين.. بل وموثقة بالصورة والصوت.. وعلى الرغم من كل هذا ترفض الخوض في هذه «المتاهات» ربما لأنها حجج الضعيف وقرائن المسكين وبراهين الخارج من الحاضر والتاريخ.. وربما لأن أنقرة اختارت الردّ على «دعاوى» الماضي بانجازات الحاضر والمستقبل وتريد ان تكون شاهدة فقط على جنازة الامبراطورية الأمريكية.