أعادتني الصين إلى النجوم بعد أن كاد يصرفني عنها هذا الزمن الذي شقّ الروح وأحنى الظهر حتّى حقّ لنا أن نعيبه على الرغم من أن العيب فينا. اعتاد أبي أن يأخذني ليلا وأنا طفل الى بستان لنا صغير، هناك في قرية الشريفات بين البرتقال والبحر.. كان يمسك بيدي ويشرح لي السماء العالية الفسيحة ويقصّ عليّ حكايات الزهرة وسهيل وبنات نعش الدبّ الأكبر والدبّ الأصغر وعطارد والمشتري وزحل.. هكذا كَبُرَ معي حبّ النجوم. لم أندهش بعد ذلك حين عرفتُ أن طاليس كان لا يحفل بالوقوع في الحُفَر مادام يمشي ورأسه إلى السماء.. غير أنّ الجراح تجبرنا أحيانا على النظر في اتجاه واحد : حيث تُداس الروح وتُكْسَر الأحلام ويُزهَقُ الحقّ، خاصّة هذه الأيام، في أكثر من أرض وتحت أكثر من سماء.. آنذاك قد نرى الدم يُباع فننسى المُشتري، وقد نرى النعوش تحمل الأطفال على الأكتاف فننسى بنات نعش، وقد نرى الأحلام تنطفئ في عمر الزهور فننسى بنات نعش، وقد نرى الأحلام تنطفئ في عمر الزهور فننسى الزهرة.. وعلى الرغم من ذلك تعيدنا الصين الى حبّنا القديم. بعد 14 دورة حول الأرض حطّت المركبة الصينية الفضائية المأهولة الأولى «شن زو 5» في مكان ما من منغوليا شماليّ غرب بيكين مع ظهور الخيوط الأولى لفجر الخميس الخامس عشر من هذا الشهر. كبسولة صغيرة استطاعت بعد 21 ساعة من الطيران أن تمنح الزمن الصيني نصيبا أكبر من «الحضور» في هذه الأرض. كان ذلك سببا كافيا كي أفرح، بل كي أنقضّ على الفرح بلهفة المحروم، في زمن بخيل بفرص الفرح. ولعلّ أكثر ما أفرحني أنّ ما أنجزته الصين بهذا الطيران كان ذا «جماليات» إنسانية تجعله قريبا منا نحن «ضعفاء الأرض». لقد أنْسَنَتْ الصين بعربتها الإلهية غزو الفضاء ومعانقة المجهول. بدأت هذه الأنسنة باختيار رائد الفضاء نفسه، يانغ ليواي، من بين 14 مترشحا من ذوي المؤهلات المتقاربة بسبب هدوئه، هكذا قال أحد المسؤولين الصينيين. وقد ظلّ يانغ ليواي طيلة الرحلة يحدّث زوجته بكلمات لا استعراض فيها ولا رائحة لتلك النشوة التي قد تسكرُ أحدنا ان هو انتبه الى كونه أصبح قرينا في بلده لأول رجلين يغزوان الفضاء في روسيا وأمريكا : يوري غاغارين وألان شيبارد. ولا شكّ في أنّ النسوة المنغوليات وهنّ يشاهدن «الكبسولة» الصغيرة تأخذ طريقها الى أحضانهنّ لم يلاحظن فيها ما يشير الى أن ساكنها قادم من كواكب أخرى، حتى المركبة كانت ذات ملامح «إنسانية». كانت تحتوي الى جانب «قائدها» على مسدّس وسكّين وخيمة صغيرة للطوارئ إذا تمّ الهبوط في مكان غير آمن، وهي طبعا محتويات سوريالية بالنسبة الى محتويات سويوز أو كولومبو أو أبوللو. لم تتنكّر الصين المولعة بالرموز لثقافتها ولم تتنكّر لاختلافها وهي تتعامل مع واحد من أصعب تحديات العلم الحديث. وكأنها فيما هي تجد لصورتها منبرا وتفتح لاقتصادها وسياستها نوافذ على العالم وحداثته، تؤكد لنفسها وللعالم في الوقت نفسه أن التفتح ليس بالضرورة ذوبانا في الآخر وخسرانا للذات. يتجسّد ذلك انطلاقا من التسميات. «المسيرة الطويلة» هو الاسم الذي أطل ق على الصاروخ الذي أقلع بالمركبة الفضائية، وقد يذكر البعض «أو لا يذكر» أنّ «المسيرة الطويلة» تسمية أطلق على ما يعتبره المؤرخون إحدى أكبر الملاحم الصينية المعاصرة، قريبا من «ملحمة هانيبال حين كاد يطبق على روما، فقد تحرّك ماو تسي تونغ برجاله على امتداد سنة كاملة بين عامي 1934 و1935 ليقطع بهم أكثر من 12 ألف كيلومتر محولا الهزيمة الى نصر متفوقا بعشرين ألف جندي على مئات الآلاف من الجند المعادي. أما «شن زو» فهو الاسم الذي أطلق على المركبة التي أطلّ منها رائد الفضاء على الأرض، وقد تمّ نقل هذه التسمية من طرف أغلب وكالات الأنباء الى عبارة «المركبة المقدّسة»، دون أن يشير أحد الى أن «شن زو» قد يكون ذلك الرسّام الصينيّ الكبير الذي عاش بين سنتي 1427 و1509، وأصبح واحدا من أهم ورثاء فنّ ما يسمّى بعصر المينغ Ming. وأما رائد الفضاء نفسه فقد أطلق عليه الصينيون اسما مختلفا عن السائد، فإذا نحن أمام كلمة جديدة تنضاف الى المعجم الفضائي العالمي : التايكونوت Taikonaute» عوضا عن «الأسترونوت Astronaute»، وقد يكون لذلك وشائج بالمحارب في كل معاني الكلمة، أو صلة بحوض بحيرة «تاي» التي عرفت احدى أهم الحضارات الصينية في القرن الثاني عشر مع عائلة سونغ والتي تعدّ اليوم من أهمّ مناطق النهضة الصينية الحديثة. ولا شكّ في أنّ الاصرار على الاختلاف انطلاقا من اللغة وعلى «الانتصار» في اللغة لا يصبح ذا معنى إلا حين يصاحبه اختلاف وانتصار على أرض الواقع. إنّ كلاّ من هذه التسميات يشير الى بعد من أبعاد «الرسالة» الرمزية التي يريد صينيو اليوم توجيهها الى أنفسهم أولا ثمّ الى العالم، التذكير بضرورة القوّة لكلّ من أراد التمتّع بحريته في سلام. يبدو ذلك جليا من خلال «التسمية» وهي تحيل الى فرشاة الفنان وبندقية المحارب في الوقت نفسه. لهذه الأسباب ولغيرها أعادتني الصين الى النجوم.. أذكر لحظة أرمسترونغ أيضا.. فرحنا بها ثمّ اكتشفنا بعد ذلك أنه مشى على سطح القمر كي يُحكم أسْرَ الأرض.. لا بأس فلكلّ شيء ثمن.. وعلى أيّ حال فإنّ كلفة البرنامج الفضائي الصيني الذي انطلق منذ 11 سنة لم تتجاوز المليارين من الدولارات. وهي الكلفة الأصغر بالمقارنة مع نظيرتيها الأمريكية والسوفياتية اللتين يروّج لهما أحيانا بما يوحي بأنّ وراءهما كائنات تطيق ما هو فوق طاقة البشر. لهذه الأسباب فرح أغلب شعوب الدول النامية لهذا الانجاز، ولم تفلح في زعزعة هذا الفرح تلك الأصوات الملمّحة الى ظلال السياسة الداخلية، ولا تلك المصرّحة بدور للتكنولوجيا الروسية في النجاح الصيني، ولا تلك المخوّفة من عسكرة الفضاء، ولا تلك المنادية عادة في مثل هذه المناسبات بضرورة عدم إهدار الثروات من أجل مثل هذه «البرامج» بدعوى أن سكان الأرض أحوج إليها من سكان الفضاء. ليترك لنا هؤلاء أن نفرح قليلا «ولو بالوكالة» قبل أن نصحو على ما يقتل الفرح. لا أحد يفهم ما يحدث اليوم على الأرض فمن الذي يفهم ما يحدث فوق رؤوسنا؟ دعونا نحلم قليلا، للحظة، رجاء. لقد ثبت منذ قرون أن بذر القمح في السماء هو أحيانا «أحيانا فحسب» احد الطرق لتأمين الخبز على الأرض.