وردة الجزائرية قيمة فنية غنائية وعربية كبيرة استطاعت أن تفرض حضورها في وجدان المستمع العربي من المحيط إلى الخليج بأغنيات عاشت ومازال الناس يرددونها في كل مكان... وردة الفنانة التي رغم شيخوختها لم يذهب شباب صوتها.. فهي مبدعة ومتألقة.. وهي تعرف كل الدروب والمسارب لتستحوذ على إعجاب الجماهير بها وبفنها... أبدا وردة لم تتغير... بل هي أكثر الفنانات وفاء لتربيتها التي تعود إلى الجزائر.. إلى الثورة... إلى جميلة بوحيرد ومليكة كهان... ولوسي كسكاس وإليات لو وحبيبة بنت بوعلي.. وما أكثر المجاهدات.. في حياة وردة محطات مهمة من أول باريس حيث ولدت في حي مونمارتي الشهير من أب جزائري وأم لبنانية... مرورا ببيروت والجزائر ثم القاهرة أين طابت لها الحياة... حطت واستقرت لكنها ظلت بوفائها المعهود إلى أرض الأحرار الجزائر الشهيدة.. فوردة الجزائرية ليست سهام بن سدرين التونسية التي باعت الوطن والشعب وارتمت في أحضان الكفار والملحدين والخونة من ألفهم إلى يائهم... في هذه المصافحة سنحاول تقديم ما خفي عن وردة وما يجهله البعض عنها لأنها في النهاية صوت مهمّ وقيمة فنية ثابتة.. بداية وردة كانت في باريس أين ولدت.. كان والدها محمد فتوكي يمتلك فندقا شعبيا ومطعما في الحي اللاتيني المعروف ولما بلغت سن الحادية عشرة سجلت أول اسطوانة لاختبار الصوت وكانت أول أغنية «يا ظالمني» لكوكب الشرق أم كلثوم.. وبعدها بخمس سنوات انتقلت عائلة محمد فتوكي بين باريس وبيروت ثم الجزائر حيث استقرت نهائيا فوالد وردة كان متيما بحب بلاده بدلا من أن يبيع ذمته إلى الأجانب كما فعل البعض من أجل «صرّة» من اليورو... فهذا الجزائري لا يكاد يغيب عن وطنه فظروفه المادية مستورة نسبيا كما قالت وردة.. وقد ساعدته زوجته في ذلك وهي التي رأت بأن باريس محطة عابرة للعائلة وما عليهم إلا العودة إلى الأرض التي أنجبتهم ووهبتهم من الحب والحنان ما لا حد له.. وهي التي أكدت في تصاريح إذاعية لها عام 1969 أن الجزائر وبيروت.. وردتان برحيق واحد.. ووطنان بقلب واحد.. ونبض واحد.. الجزائر عربية مسلمة ولبنان كذلك. بين وردة.. ومسعود تنتمي وردة الجزائرية (فتوكي) إلى أسرة متوسطة عاشت في قلب العاصمة الجزائرية متكونة من والدها محمد فتوكي وأمها «البيروتية» وأربعة أبناء حسب الترتيب حيدر ونظيرة ومسعود ووردة وهي آخر العنقود.. وكانت الهواية التي تجمع هذه العائلة هي حب الفن والغناء والموسيقى بكل أنماطها فمعظم أفراد عائلة فتوكي توارثت هذه الهواية من سلالتها التي تنتمي إليها وهي ترجع إلى أصول أندلسية والبعض تركي.. فاخوة وردة منهم من يمتلك صوتا جميلا.. ومنهم من يجيد العزف على آلة موسيقية ورغم أن جميع أفراد عائلة فتوكي متحابة ومترابطة إلا أنه كان هناك تقارب شديد بين الفنانة وردة بشقيقها مسعود بحكم تقارب السن بينهما.. ففي سن الحادية عشرة من عمره اشترى آلة نفخ موسيقية وبدأ في التدرب عليها وبعد عامين كون فرقة موسيقية من بعض تلاميذ المدرسة وعندما أصبح عمره 16 سنة قام بتكوين فرقة موسيقية غنائية تعمل في الفنادق والملاهي الليلية ونظرا للانسجام الفكري والفني والروحي بين مسعود ووردة أسند لها مهمة الغناء بمجموعته الصغيرة وفي ذلك الوقت قدما بعض الأغاني بالعربية والفرنسية المعروفة انذاك. وردة... والأغاني الثورية ميلاد وردة الفني والحقيقي كان عقب ثورة الجزائر حيث اتجهت أنظار الشعراء والملحنين لموهبتها الغنائية.. فبدأت بتقديم أغان خاصة بها وكانت هذه الأغاني في تلك الفترة التاريخية من عصر الجزائر الفنية تعبر عن ثورة وطنها فقدمت «أنا من الجزائر» و«أنا عربية» ثم قدمت بعدها أغنية عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد التي سنأتي بالحديث عنها في قادم أعدادنا إن شاء الله «جميلة» ونجحت الأغنيات نجاحا كبيرا وتم اعتماد الفنانة وردة فتوكي مطربة وهي مازالت طفلة رقيقة وبدأت توجه لها الدعوات في أكثر من بلد عربي للغناء.. وأصبحت أغنيتا «جميلة» و«أنا من الجزائر» تذاعان باستمرار في جميع المحطات الإذاعية العربية من ضمنها تونس حين كان مقر الإذاعة الوطنية بنهج العملة.. إيه يا حسرة! ثم ذهبت إلى مصر وكانت البداية من خلال حفل أضواء المدينة حيث تعرف الجميع على مطربة جديدة اسمها وردة الجزائرية.. وبمجرد وصولها إلى القاهرة وعقب غنائها في حفل أضواء المدينة السالف الذكر اتصل بها الموسيقار الكبير رياض السنباطي الذي قرر تبني موهبتها الغنائية وقدم لها أول لحن عاطفي «حاقولك حاجة» مشيرا عليها بسماعه والتفكير فيه ثم نسيانه، ونجحت الأغنية ثم قدم لها «لعبة الأيام» التي قام التلفزيون المصري بتصويرها سينمائيا وقام بإخراجها كبير المخرجين السينمائيين محمد سالم وكانت هي المرة الأولى التي يتولى فيها التلفزيون المصري تصوير إحدى أغاني رياض السنباطي سينمائيا خارج استوديوهات التلفزيون. وردة.. والصورة السينمائية وكان من الطبيعي بعد هذا النجاح السريع والكبير أن تلتفت إلى المطربة وردة أنظار منتجي السينما والتلفزيون في آن.. فكان مسلسل «الوادي الكبير» مع بلبل الشام صباح فخري.. الذي بثته التلفزة التونسية منتصف السبعينات عندما كان لتلفزتنا «كار ومقدار» بفضل ما تنتجه من برامج ومنوعات وبثها لأحسن الأفلام والمسلسلات... لكن اليوم «هز من الجابية» وحط في الخابية تهريج وتمريج وضحك على عقول المشاهدين... من «سفيان شو» إلى «احنا هكة».. والقائمة طويلة.. إذن فوجئت وردة الجزائرية بالمنتج والمخرج حلمي رفلة يقدم لها عرضا ببطولة فيلمين الأول بعنوان «الخط وعبدو الحامولي» والثاني عنوانه «أميرة العرب» قبل أن يلتقفها مخرج آخر.. وكان الفيلم الأول فرصة كبيرة لوردة لكي يعانق صوتها ألحان كبار الملحنين فقدم لها موسيقار الجيلين محمد عبد الوهاب في ذلك الفيلم لحن أغنية «اسأل دموع عينيه» وقدم لها ملك العود فريد الأطرش لحن «روحي و روحك حبايب» فيما قدم لها العميد بليغ حمدي لحن «يا نخلتين في العلالي» ورغم أن كمال الطويل لم يلحن لها في فيلم «الخط وعبدو الحامولي» واكتفى بالتلحين لعادل مأمون أغنيته «يا اللي سامعني» الذي تقاسم معها دور البطولة في الفيلم المذكور. وما تجدر الإشارة إليه وهي أمانة تاريخية فإن الدكتور محمد عبد الوهاب أحدث تغييرا كبيرا في صوت المطربة وردة الجزائرية.. لأنه قبل أن يكون ملحنا رائعا فهو مؤد لا مثيل له ولا يستطيع أحد نكران ذلك وقد تعلمت منه وردة الكثير أثناء أداء البروفات... بليغ حمدي والحنين في عام 1971 انفصلت وردة عن زوجها وعاودها الحنين إلى العمل الفني فأرسل مسعود شقيق مطربة الجزائر الأولى إلى بليغ حمدي الموسيقار المعروف برقية يعلمه فيها أن وردة ستعود إلي الغناء مرة أخرى.. فرد بليغ بالترحاب وأنه في انتظار وصولها إلى القاهرة حيث أعد لحنين جديدين لها.. وفي شهر مارس من عام 1972 عادت وردة الجزائرية إلى مصر بعد غياب تسع سنوات كاملة.. وبدأ بليغ حمدي بتحفيظها الأغاني الجديدة التي ستؤديها في الحفل القادم ومنها «العيون السود» و«الله يا مصر زمان» وقدمت الأغنيتين في الحفل الذي نجح ومعه الأغنيتان.. فقد استقبلها الجمهور بحب وترحاب كبيرين وكأنها لم تغب عنه لحظة.. ثم حدثت المفاجأة إذ أوقفت أغنية «العيون السود» بعد ذلك النجاح بسبب وجود مشكلة حول أحقية مطربة كبيرة ومعروفة لهذه الأغنية.. ولكن أنقذ بليغ حمدي الموقف من خلال تلحين أغنية أخرى لوردة شبيهة بلحن «العيون السود» وحتى يكون القراء وممن هم من عشاق الفنانة وردة على علم فإن «العيون السود» ليست لوردة وإن كانت قد أدتها وسجلتها بصوتها فهذه حقيقة وبشهادة ابنة الجزائر نفسها.