ماهي الدروس والخلاصات المضحكة والمفزعة التي يمكن أن تولدها هذه الحقيقة التي تقول بأن أحزاب المعارضة ومن مختلف الضفاف، غير قادرة على الترشح في مختلف الدوائر الانتخابية خلال الاستحقاق البلدي القادم؟ الحقيقة أن الدروس والخلاصات كثيرة، أهمها بالطبع الضعف الشديد لهذه الأحزاب، والهزال الذي أصابها والضمور الذي لم يفارقها البتّة، فإذا كانت غير قادرة حتى على التواجد في قائمات انتخابية، هل تعتبر وقتها أحزابا، وهل تنطبق عليها هذه الصفة، وهل يمكن أن تطلق عليها أصلا؟ بالطبع لا، لكنها بالمعنى القانوني أحزابا. وعلى هذا الأساس يتم التعامل معها، وكذلك تطرح هي نفسها. ولكن الواقع يقول عكس ذلك، وإذا كانت غير قادرة على أن تكون أحزابا جماهيرية، تعتمد على رقم منخرطيها من جهة وعلى الكتلة التي تساندها إنتخابيا من جهة أخرى، فإنه لا يمكن تصوّر أنها عاجزة حتى عن تجميع عشرات من الأفراد ليتواجدوا في قائماتها الانتخابية، أي أنها عاجزة عن أبسط مهمة يمكن أن تقوم بها، وغير قادرة على أيسر عمل هي مطالبة بالقيام به. لماذا يا ترى وصلت إلى هذا الدّرك والحال أن الدولة وفرت لها كل أنواع الحماية والمساندة، فمن الاعتراف القانوني إلى التمويل، إلى تمكينها من وسائل إعلام وغيرها كثير وكثير. لماذا وأين الخلل؟ خصوصا أنه في هذا الحال تستوي أحزاب الوفاق بالأحزاب الراديكالية. فلا فرق بينها في هذا المجال، وإن كان الفرق واضحا في الخطاب والمسلك. هل استسهلت الأولى، وقنعت ورضيت بأن تكون أحزابا مسنودة، يقتصر حضورها على التشريفات والمناسبات الرسمية؟ وهل ركنت الثانية الى الصياح الذي كأنه في واد سحيق، وعلى التصعيد اللغوي الصرف الذي لا يجد تجاوبا ولا يغيّر حالا؟ إنها أسئلة يفترض أن تجيب عنها الأحزاب المعنية، بعيدا عن الاجابات التقليدية المعروفة، من هيمنة الحزب الحاكم وضرورة فصله عن الدولة وغيرها من الاجابات التي كان يمكن أن تبني بها المعارضة جبهة لصالحها وأن تجمّع حولها الجماهير، وأن تستنفر بها الناس لصالحها، لا أن تجعلها فزّاعة تبرّر بها ضعفها ووهنها، ثم لا تجد من ينصت إليها. أيّ أن بعض الشعارات التي ترفعها المعارضة، لو هي وجدت تجاوبا جماهيريا، لأصبحت سببا لقوة لا مدعاة لضعف، وصخرا تستند إليه لا رمالا متحركة تغرق فيها. وعلى ذكر الحزب الحاكم فإنه يحتاج إلى حديث واقعي وهادئ، يبدأ من أنه عرف منذ نهاية السبعينات من الأمراض ما لا يحصى، ومن أسباب الوهن ما لا يعدّ، لكن الثابت أنه قبل تغيير السابع من نوفمبر حيث وصل ضمور أدائه إلى الذروة، كان عدد منخرطيه يعدون بعشرات الآلاف، وكان هيكليا يغطي كل المناطق، وكان يتواجد في كل مؤسسة وجمعية ومنظمة. فهو كان بالرقم والعدّة موجودا، وإن كان خصوصا منذ بداية الثمانينات غير موجود بمعنى الاشعاع والمقدرة. وعندما حصل تغيير السابع من نوفمبر استعاد قوّته، واسترجع قدرته، بل واكتسح مئات الآلاف من المنخرطين والمتعاطفين الجدد، لكنه تمكن من كل ذلك لأسباب لا ترجع أو تعود إليه البتة، بل الى الرئيس زين العابدين بن علي، فقط ليس إلاّ. فالاجماع حوله كان بلا حدّ، والالتفاف حول شخصه وحول برنامجه كان عاما، وعندما اختار أن يظل رئيسا للحزب الحاكم، انساق الآلاف وراءه وليس وراء الحزب الاشتراكي الدستوري أيامها. وذهبوا إلى التجمع من أجل الرئيس لا من أجل الهيكل وولجوه من أجل بيان السابع من نوفمبر لا من أجل الحزب كحزب. هذه حقيقة لا تحتمل أي نقاش، وبديهة يعرفها الجميع. وقد أذكى الخطاب السياسي للرئيس في الناس ما كان يشجعهم على اكتساح التجمّع، ألم يقل في خطابه (يوم 26/2/1988) خلال افتتاح أشغال اللجنة المركزية: «... انطلاقا من إيماننا بإمكانات حزبنا، وقدراته على تحمل مسؤولية الحاضر والمستقبل، فإننا مدركون تماما لوجوب القيام بمراجعة تنظيم الحزب وهياكله، وطرق عمله، مراجعة جدية عميقة. وهذه المراجعة الأكيدة، إنما هي علامة صحة، ودليل أصالة، يتولاها كل حزب دعما لمقوماته الذاتية، والوظيفة الرئيسية لحزبنا في هذه المرحلة التاريخية، هي دعم توجهات السابع من نوفمبر، وحمايتها وصيانتها مما قد يدبّر أو يدس لها من مزالق، سواء منها الزيغ بها عن مقاصدها الأصلية، أو تشويهها، أو تحريفها، أو احتواؤها أو افراغها من مضامينها الايجابية... إن التغيير أمر لا تراجع فيه، ولا مكان في هذا الحزب للانتفاعيين من أي قبيل كانوا، ولا مكان فيه لمن تحوم حول سلوكهم الشبهات. وهكذا يبقى الحزب حزب المناضلين الصادقين النزهاء الذين ما لهم من غاية سوى نفع البلاد والعباد. إن الظروف التي تمر بها البلاد لا تسمح بالتهاون، ولا بالتسيب والاسترخاء. فالساعة ساعة جد. والطريق وعرة والمسؤولية جسيمة. وفي أعناق التونسيين جميعا، والدستوريين خصوصا، أمانة الذود عن الوطن، والرفع من شأنه، بمواجهة التحدّيات، وتذليل الصعوبات التي تواجه طريق تقدمه وازدهاره». فمن كان يتردد أمام هذا الخطاب، ومن كان ليصيبه شك ، أو تؤثر فيه ظنون؟ وهل يصحّ ما زعمنا من أن الحزب الحاكم لا يستمد قوته إلا من رئيسه؟