بقلم: عزوز الحراز (مهندس استشاري لصناعة الخزف، رئيس الغرفة، الوطنية للحرفيين المبتكرين) عملا على تشخيص المعنى المقصود من «التقليد» تشخيصا كافيا، لابد لنا أن نعمل على تعريف هذا المصطلح تعريفا لغويا دقيقا وبصورة أكثر توضيحا وتحديدا، وذلك مع بيان الأسباب التي أدت الى ظهوره. التقليد في اللغة: مصطلح «التقليد» هو مصدر مأخوذ من فعل قلد بتشديد اللام، ويقال: قلد الحبل، أي فتله. والقلد أو القلادة هو كل فتيلة أو خيط أو وتر أو شريط أو حبل مقلد، ومقلود، وقليد، بمعنى مفتول من ألياف نباتية كليف النخل والصبار والحلفاء، أو ألياف حيوانية كالصوف والشعر. والقلادة (ج) قلائد، وأقلاد، وقلود، وهي الحبل الذي يحاط بعنق الجمل والفرس، والكلب، وغيرها من الدواب لتقاد به. وما يمكن ملاحظته في هذا الصدد، أن كلمة «التقليد» ينحصر تفسيرها مبدئيا في العمل اليدوي الذي يرتبط بالماضي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدْي رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثمَّ أشعَرتُهَا وقَلَّدَهَا أو قَلَّدْتُها ثم بعث بها الى البيْت. وأَقَام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حِلاّ. وفي رواية للبخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: فتلت قلائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كان عِنْدِي. وقال ابن بطال: العهن: الصوف، وأكثر ما يكون مصبوغا، ليكون أبلغ في العلامة. والمقصود بالهدي هو البدن من إبل وغنم وبقر التي يسوقها الحاج معه وفي أعناقها قلائد كعلامة وشعار ليعلم الناس أنها هدايا الى البيت فيأكلها المساكين بعد ما يتم نحرها. وقال رسول الله في الخيل: «لا تقلدوها الأوتار»، أي لا تربطوا عنقها بالحبال. ويتبين من هذا الحديث الشريف أن عملية ربط الدابة بالحبال أي القلائد، يطلق عليها «تقليد». فقال: تقلد وترا، أي وضع قلادة في الرقبة محيطة بها. ويقال: تقلدت المرأة القلادة، أي لبستها وربطتها في عنقها. فالقلادة التي كانت تعني مجرد وتر أو خيط أو شريط أو حبل مفتول يلف حول عنق الدابة لجرها به، صارت بمرور الزمن، تطلق على ما تزين به الأعناق من حلي وأطواق جميلة. وهذه القلادة الجديدة هي عبارة عن خيط طويل ينظم فيه الخراز مجموعة من خرز الذهب واللؤلؤ والمرجان والعقيق والياقوت وغير ذلك، ويعقد حول الرقبة ليشكل دائرة مغلقة في بادئ الأمر، كان لبس القلادة حكرا على الملوك أو القادة للدلالة على مركزهم في السلطة، ثم شاع لبسها في أوساط الرجال الذين كانوا يبحثون عن مكانة اجتماعية، وبعد ذلك انتشر تقليد القلادة بين النساء لغرض التميز والتحلي وجلب الأنظار، وصار يعد عنصرا من عناصر الزينة التي تكمل بها المرأة أناقتها. ومن المؤكد جدا أن الناس صاروا يحاكون بعضهم البعض بلبس القلادة لمجرد المباهاة والتظاهر بالغنى أو حتى الرغبة في الجديد والارتقاء الى اكتساب صفات أفضل وأحسن. ومحاكاة شخص لشخص آخر تعني التشبه به في تصرفاته من كثرة الإعجاب به لأنه هو الأفضل أو الأجمل . ولعل ذلك السر في أن كلمة «التقليد» أصبحت بمرور الزمن تحمل مفهوم المحاكاة بمعنى المشابهة لشيء سابق أحسن، وجاء هذا نتيجة الإعجاب بحمل القلادة ومن ذلك انتقل المعنى الأصلي لكلمة «تقليد» من لبس القلادة الى المحاكاة التي توحي بمعنى التعجب والاعجاب والاعتبار والتأثر والاستعارة والأخذ والتشبيه والمشابهة والمماثلة والمطابقة والتميز والتحسين والتجديد وحب التبعية. ومن ذلك الوقت اعتاد الناس لبس القلادة بشكل دائم ومتكرر وبدون التفكير في العدول عنها، حتى أصبح هذا السلوك شائعا بينهم، وصار من العادات المألوفة التي تقيدوا بممارستها عن وعي وعن غير وعي، وتم تناقلها عبر الأجيال. فالعادة تطوق النفس وتأسرها كما تطوق القلادة العنق. ويبدو من هذا، أن كلمة «التقليد» بمعنى لبس القلادة اتجهت مرة أخرى لتدل في سياق آخر على كلمة «العادة» بناء على التعود على لبس القلادة، وبمعنى أوضح أن «العادة» صار يطلق عليها بصيغة الجمع «تقاليد». وهكذا بمرور الزمن، أخذت كلمة «تقليد» معنى التقيد بالتقاليد واتباع الناس العارفين بها والذين يمارسونها باستمرار. والمقصود من الاتباع هو الاقتداء بالذين لهم الخبرة أو المعرفة بهذه التقاليد، واتخاذهم قدوة وأنموذجا، مما يستوجب التشبه بهم، وتطبيق ما يقولون، والنسج على منوالهم فيما يفعلون، والأخذ برأيهم، والاعتماد عليهم، والرجوع اليهم في كل الأحوال. فتقليدهم يعني حرفيا أن من يتبعهم يطوق عنقه بحبلهم أو قلادتهم ويربط مصيره بمصيرهم. ومن ذلك أخذ مفهوم كلمة «تقليد» اتجاها جديدا آخر ليكتسب مفهوم التربية بمعنى تعليم غير العارفين تحت اشراف وبإرشاد العارفين بالتقاليد. فهؤلاء يتولون اذن مهمة القيام بتعليم غير العارفين من الصغار وتبليغ معارفهم وخبراتهم إليهم شيئا فشيئا، عن طريق التدريب وتكرار المحاولات والممارسات. وتعد تربية الصغار ومتابعتهم مهمة صعبة وأمانة في العنق، فمن يقوم بها كأنه يطوق عنقه بقلادة المسؤولية. وفي هذا الإطار أخذت كلمة «تقليد» معنى آخر، هو تحميل المسؤولية والتكليف بها مع ما تتطلبه من أعباء وتبعات. وقد صارت هذه الكلمة تطلق بصفة عامة على تولي المهام والأمور والأعمال والمناصب.