توجد بعض المفارقات العجيبة في مهرجاناتنا الفنية والثقافية لا يمكن المرور عليها مرور الكرام لأنها تمس صميم الفعل الثقافي ومردوده الاساسي، فما معنى أن تخصص منح بعشرات الملايين من طرف وزارة الثقافة والبلديات والولايات وجهات رسمية أخرى لمهرجان يرفع شعار الوطنية ثم تصرف تلك الملايين على برنامج وفقرات تفتقد الى الحد الأدنى من الوعي بطبيعة المطلوب من ذلك المهرجان، اضافة الى فقدان رؤية كلية للممارسة الثقافية وشروطها ومكونات نجاحها وكيفيات صناعتها لمادة ثقافية فنية تليق بالمستوى الثقافي الوطني... وإذا لم تستطع ان تضيف الى مكاسبنا الثقافية الفنية شيئا فعليها على الأقل ان تحافظ على الرصيد الفني الموجود ولا تستبيحه وتعتدي عليه.. لم أكن أتصوّر أن تبلغ تلك المفارقات شكلها الاقصى المزعج في الدورة الأخيرة لمهرجان الموسيقيين الهواة بمنزل تميم، فبعد أن وقع التخلي عن مسابقات كانت تمثل المكوّن الأكبر لاشعاع المهرجان وعموده الفقري مثل: مسابقة الانتاج ومسابقة أداء أغاني يوسف التميمي... وهي مسابقات كانت تتجاوز قيمتها المادية الثلاثة آلاف دينار... ها هو المهرجان يفرّط من جديد في جزء جديد من مقومات وجوده الاساسي وهو فرقة الاذاعة الوطنية... ويبدو أن كل ما فات في واد والمشكلة الاخيرة للمهرجان مع مايسترو فرقة الاذاعة الوطنية الملحن سمير العقربي في واد ثان... فهل يعقل ان يتم استبدال فرقة الاذاعة الوطنية بفرقة أخرى خاصة بسبب خلاف مالي ليس له أي قيمة حقيقية في مهرجان تتجاوز ميزانيته الثلاثين ألف دينار؟ هل يمكن ان يكون خلاف حول مليون او اثنين او ثلاثة مبررا الى استبدال فرقة الاذاعة الموسيقية الوطنية بفرقة خاصة والتضحية بأهم مقومات وجود المهرجان وجديته؟... كيف يمكن ان نلعب مع رموز الساحة الموسيقية وقواعدها الفنية الراسخة على هذا النحو من الاستخفاف واللامبالاة؟ ألا يتحول ذلك الى عبث ولعب بالثوابت الفنية الوطنية؟ أليس فقدان فرقة موسيقية محترفة بحجم فرقة الاذاعة كمرافق للمترشحين يعد ظلما فاضحا للأصوات المترشحة سيؤثر حتما على جودة العزف وعلى أحكام لجان التحكيم وعلى ظروف المسابقات وعلى صورة المهرجان ووظيفته؟ هل يحتاج تجاوز الخلاف بسرعة الى حكمة كبيرة وفطنة قوية كي تتصرف الهيئة الجديدة للمهرجان بشيء من الخوف على سمعة المهرجان ومستقبله. سمير العقربي الذي قابلته بعد محاولات عديدة لفض الخلاف «بالحسنى» والبحث مع المسؤولين المحليين في مدينة منزل تميم عن حل وسط عبّر لنا عن أمله الكبير في تدارك الأمر وأفادنا بأن الفرقة قد قامت بكل «بروفاتها» وهي جاهزة لاحياء حفلات المهرجان لكن الخلاف مع مدير المهرجان حول الاجر هو الذي عطّل باقي «المفاهمة»... وعبّر عن استعداده لتخفيض المبلغ الذي عرضه على ادارة المهرجان في أول مرة من عشرة آلاف دينارا الى ثمانية الاف دينار مع الاحتفاظ بعدد العازفين الستّة عشر، وادخال تعديل صغير في عدد فريق المؤدين فقط. ورغبة منّي في مزيد فهم الخلاف والتأكد من حقيقة المشكلة وطبيعة اطوارها حاولت الاتصال هاتفيا بمدير المهرجان الجديد فأجابني بكثير من السرعة والاقتضاب والتبرّم بأن موضوع الفرقة الموسيقية قد تم «تسكيره». وهو ما يعني ان باب المهرجان قد أغلق بالقفل والمفتاح قبل ان يبدأ، عوض ان تفتح فيه حتى الشبابيك على كل الناس... فهل هذا أسلوب في ادارة مهرجان وطني؟ وهل هذه عقلية يمكن أن تصنع المتعة والترفيه للناس؟ وان تقدم الاضافة للساحة الفنية؟ ومن المؤكد عند القاصي والداني أن سمير يمثل لوحده مهرجانا موسيقيا وطنيا يوميا وليس سنويا فقط... إنه آخر ديناصورات الساحة الموسيقية الباقية الذي حوّل الموسيقى الى سائل خمري مسكر ومدوّخ يسكب من قوارير الروح... ورغم شهرته الواسعة ونجوميته المؤكدة فقد وجدت لديه صدرا منشرحا ورغبة صادقة في المشاركة في هذه الدورة... بل شعرت بحرص خاص منه على الوجود في هذه الدورة وقد وعد بأن تكون هذه الدورة استثنائية إذا تم التوصل ا لى حل... فمن سيعوضنا كل هذه الخسارات؟ ومن المستفيد من التضحية بصورة المهرجان وبسعادة الجماهير حين يرسل سمير عذوبة صوته وخمرة لحونه حتى الى البحر المجاور وأسماكه فيجعلها حتما تتمايل في مائها طربا وعشقا خاصة إذا غنى: أنا عاشق يا مولاتي... إن هذا المهرجان المتميز الذي ساهم طيلة الدورات السابقة التي تجاوزت العشرين في منح تأشيرة عبور عديد الاصوات الهامة الى الساحة الفنية والاعلامية مازالت مدينة منزل تميم مصرّة بمثقفيها ورجالها المبدعين الصادقين على احتضانه وعلى تألقه السنوي بين ربوعها الخضراء... ولهذا فهو في حاجة الى رعاية خاصة من طرف وزارة الثقافة والى مراجعة جدية لبعض وظائفه والى دعم اكبر في ميزانيته، والى الأخذ بيده لتجاوز صعوباته وتوجيه ادارته وارشادها الى كيفية أخذ القرار الحكيم وطرق الارتقاء به كي لا تسقط البرامج المتسرّعة في الاسفاف والارتجال والسطحية المرفوضة في هذه المرحلة من عمر تونس الثقافي والابداعي الراسخ في التحدي وطلب الأرقى...