أعرف محمد الزّرن منذ أكثر من عشرين عاما، وخلال هذه الصداقة القديمة شاهدت كل أعماله من «كسّار الحصى» الى «يا نبيل» و«السيّدة» و«نشيد الألفية» و«الأمير» وصولا الى «زرزيس»، لكنّني أعتقد أنّ الشريط الأخير الذي يعرض في القاعات من 15 مارس الى الآن هو أجمل وأعمق ما قدّم محمد الزرّن الى حدّ الآن وذلك لأكثر من سبب. أعرف الحساسية الكبيرة لمحمد الزّرن تجاه الشعر، بل الشعرية، لكنني لم أكتشف قدرته العجيبة على تحويل ماهو يومي الى لوحة شعرية عبر السينما إلاّ في هذا العمل البديع. كان أمحمد مطيمط هو البوّابة الأولى التي انكشفت خلالها مدينة جرجيس التي تمثل لوحة ساحرة لسكان الجنوب في منطقة الصحراء خاصة وقد عرفت باسم «زرزيس» الذي اختاره الزّرن عنوانا لعمله السينمائي، هذا الشريط جعلني أكتشف مدينة أخرى لم أكن أعرفها مدينة مختلفة عن المدينة التي عرفتها في بطاقات السياحة وفي زياراتي العابرة. لقد كتب محمد الزّرن بلغته الشعرية العالية سيرة المكان والناس وحفر عميقا في وجدانهم وذاكرتهم من خلال بعض الشخصيات التي لم يكن اختيارها اعتباطيا من «الطاهر» المعلّم المنحدر من ثقافة اشتراكية تتعارض كليّا مع النظام العالمي الجديد ومشتقاته الثقافية والسياسية والاقتصادية و«الهادي» الفنان الذي خسر أحلامه بعودته القسرية من فرنسا ليعيش على هامش المجتمع المحافظ الذي يرى فيه شخصية هامشية غير عابئ بأشواقه الضائعة ولا ابنته البعيدة ولا أحلامه الصغيرة، وهذا ليس قدر «هادي زرزيس» فقط، بل قدر كل فنان اختار الخروج عن السبل المسطورة بعبارة محمود المسعدي في مجتمع عربي لا يهتم كثيرا بالعصافير النادرة التي تحاول السباحة في مياه مختلفة. وصولا الى «شمعون» اليهود الذي تجمعه علاقة عميقة جدّا مع الجيران والحرفاء والأصدقاء مكذّبا أكاذيب العصابات الصهيونية التي أقامت كيانا عنصريا بمبرّر كذبة القمع الذي يعاني منه اليهودي في العالم وخاصة في المجتمع العربي وصورة «شمعون» كما قدّمها الزّرن هي الدليل الأقوى لفضح مثل هذه الأكاذيب. في الشريط أيضا شخصيات هامشية مثل الشاب بائع التحف الذي يقدم لنا صورة لجرجيس الأخرى وهو نموذج لمئات الشبّان في المناطق السياحية من الحمامات ونابل وسوسة والمهدية وجربة وتوزر ودوز الذين يحلمون بالسفر الى أوروبا التي تمثل لهم أرضا للحلم دون أن يتصوّرا المعاناة ولا العنصرية التي سيواجهونها لو فازوا بعلاقة مع أجنبية تحلم بالشمس والبحر والصحراء! شخصية «الحنّانة» التي تمثل ذاكرة المدينة من أكثر الشخصيات حضورا في الشريط لأنها تدوّن سيرة الحياة والموت وقد كانت شخصية السويسري الذي أسلم وتزوّج واستقر في جرجيس صورة مغايرة للغرب الذي يحب العالم العربي ويحترم الاسلام. فالغرب ليس واحدا والتعايش والحوار ممكن فإفتتان محمد الزرن بمدينته جرجيس ليس انغلاقا على الذات، بل هو انفتاح على الآخر، فمن لا يحبّ قريته لا يحب العالم كما قال الشاعر الدّاغستاني رسول حمزتوف. هنا.. زرزيس محمد الزّرن، ليس المخرج التونسي الأول الذي يجعل من مدينته موضوعا لشريط يتداخل فيه الوثائقي بالروائي، فقبله صنع النوري بوزيد من صفاقس موضوعا لعمله الروائي الأول «ريح السد» واختار فريد بوغدير «الحلفاوين» التي عاش فيها طفولته موضوعا لشريطه الأول كما اختار رضا الباهي مدينة القيروان موضوعا لشريطه «صندوق عجب» واختار الجيلاني السعدي بنزرت موضوعا لشريطه الأول «خرمة»، لكن قراءة الزّرن كانت مختلفة تماما، إذ ابتعد عن الغرائبي والسحري وعن الصورة الاستشرافية للشرق على حدّ عبارة ادوارد سعيد فشريط «زرزيس» تخلص من عقدة الجسد والختان والعذرية والاغتصاب وزوايا الأولياء الصالحين التي استعملت في أكثر من شريط تونسي في غير سياقها الروحي ليقدم شريطا يصوّر الحياة اليومية البسيطة في جرجيس هذه المدينة التي تفتح على المتوسط بقدر تجذّرها في الجنوب بكل خصوصياته الاجتماعية والثقافية المحافظة. محمد الزّرن.. شاعرا محمد الزّرن كشف في شريطه الجديد الذي حاز مساء الأحد على الجائزة الكبرى لمهرجان تطوان في المغرب بعد جائزة مهرجان أبوظبي عن شاعرية عالية إذ تتحوّل الصورة والمشهد السينمائي الى حالة شعرية ممّا يؤكد على نجاح محمد الزّرن الذي صوّر 200 ساعة احتفظ منها بساعتين فقط في التكثيف ليكون شريطه رسالة حب الى طفولته في جرجيس، ف«زرزيس» الزّرن ليست جرجيس البطاقات السياحية إنها «زرزيس» أخرى قد يكون الزّرن وحده من يراها، لكنه نجح في أن يقدمها للناس ليروها كما رآها وذلك هو جوهر الشعر.