(1) أحتفظ مما تبقى في ذاكرتي من سنوات الفلسفة وقد كانت الفلسفة إلى حدّ السبعينات مادة هامة في المنظومة الدراسية ومرتكزا صلبا لثقافتنا العصرية الناشئة قلت أحتفظ بهذه الجملة للدنماركي كيار كيغارد (Kierkeqaard) التي يؤكد أن فيها أضمن السبل إلى السكوت ليس في الامتناع عن الكلام بل في الكلام ذاته. تذكرت هذه المقولة هذه الأيام وأنا انتقل من قناة عربية إلى أخرى بحثا عن بديل لثنائية البكاء اليائس عن القدس الجريح والتبشير بجنّة الحور العين، لم أجد غير كليبات محترفات الغناء المبتذل والرّقص الهابط بديلا، فأطفأت التلفاز آملا أن يضمن لي الامتناع عن المشاهدة ما رسخ في الذاكرة من سنوات الشباب حين كان المال قليلا ولا يزال كذلك والحلم كبيرا والكتاب خير أنيس.. قلت في نفسي: قد يكون أفضل لتلفزاتنا العربية اليوم أن تتوقف أحيانا عن البث فذلك أنفع للناس وأفيد من خرافات التجهيل والاثارة السوقية التي تعج بها برامجها شرقا وغربا. (2) لا أودّ أن يذهب في ظن البعض وأنا أقول ما قلت أنني ممن يتلذذون بجلد الذات أو ممن يستهواهم التباكي على الأندلس الضائعة، لكني غير قادر على الامتناع عن تذكّر زمن غير بعيد كانت التلفزات العربية فيه على قلتها تتنافس في انتاج البرامج الثقافية والفكرية الثرية والمثرية وتجتهد في محاكاة السابقين في المعارف والعلوم في أوروبا وأمريكا فتشرّك أهل الاختصاص والنخبة في طرح ما يستجد من مسائل وما يهمّ من ملفات تنير الرأي وتُسهم في إثارة التساؤل البنّاء. ثم إني لأذكر زمنا ليس أبعد لم يكن يتوفر فيه لدينا من محامل التثقيف غير الورق وبعض الاذاعات المسموعة، لكن كنّا نتغذى كل يوم بما تقترحه أعلامنا في مشرقنا ومغربنا العربيين من مطارحات تكاد لا تنتهي وجدالات تنمي الوجدان وتخصب الفكر فيتعمق الوعي وتتسع الرؤية ويثبت الكيان. لنذكر مثلا ونتذكر ما كان يثيره أدب أستاذنا محمود المسعدي من نقاش وحوار مع كل إصدار جديد يصل صداه الى كل أنحاء وطننا العربي فتتراكم ردود الفعل حول النص الأصلي رواية كان أم مسرحا أم نقدا لتكوّن أدبا حول الأدب قائما بذاته، وقد تصل هذه المطارحات الى حدّ التباين الجغراثقافي حتى أن عميد الأدب العربي طه حسين استعصت عليه رواية «السّد» التي كانت مسحتها العبثية الطلائعية سدا حال بينه وبين فهمها أو استصاغتها. ولنذكر ونتذكّر ما كانت كتب صاحب «الأيام» تسبّب كل مرة من ضجّة تملأ الحياة الثقافية العربية وتشغل المفكّرين فتثمر الجامعات ومراكز البحث أطروحات نقدية وتمتلئ صحفنا وبرامج اذاعاتنا نقاشات وتنشط منابرنا وفضاءاتنا الثقافية. أليس من المفارقات العجيبة ان تنمو امكاناتنا المادية فتتراجع حاجاتنا الفكرية، وأن تتكاثر وسائل الاتصال في بلادنا العربية فينقطع الاتصال الثقافي؟ (3) لقد أصبح من السهل بل ومن المبتذل أن نتحدث عن رداءة الحال العربي الراهن فنرجع سبب ذلك الى اختيارات سياسية أو الى تمذهب عقائدي. الرأي عندي أن السبب ثقافي في الأساس، وحيث أن الأساس هي اللغة فإن وهن العرب اليوم من وهن لغتهم والعكس صحيح. إن كل لغة إنما هي تصوّر للعالم وتوليد وتحديد لمعانيه ودلالاته، غير أنك وأنت تنتقل اليوم من قناة تلفزية عربية الى أخرى تلاحظ هذا العجز الواضح عن توليد وتحديد المعاني والدلالات غير تلك التي يفرضها الآخر الغربي والتي تلوكها كل تلفزة على حياد باسم الخصوصية المحلية والتي ما هي في الحقيقة إلاّ تقوقع ثقافي وانعزال فكري. (4) إن لغتنا العربية كما تبدو من شاشات تلفزاتنا العربية متذبذبة بين تبعيتها للخطاب الأصولي الديني وبين حاجتها أو إرادتها للاستجابة لمستلزمات الحداثة الفكرية والعملية وهي متبذبذبة في مستوى آخر لكنه متصل بين التأثير الانغلو سكسوني والتأثير اللاتيني، بين الانقليزية والفرنسية. لقد تفطّن سابقونا الى ضرورة تطوير لغتنا العربية وجعلها قادرة على التعبير عن المستحدثات الجديدة في ميادين الأداب والعلوم فأسّسوا من أجل ذلك المجمع العلمي العربي بدمشق في سنة 1919 ثم أتبعوه بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، لكننا لا نرى اليوم لهذين المؤسستين ولغيرهما من ذوات الأحجام المحلية من تأثير ايجابي واضح على لغتنا التي تزداد كل يوم عزلة وضعفا حتى أن متكلميها صاروا يستنجدون باللفظ الاعجمي للتعبير عن واقعهم المحيط. (5) هو ثابت تاريخي: لم تتطوّر لغتنا العربية ولم تنصهر في حركية التحديث الا متى اصطدمت مع الآخر. كان ذلك في فجر الاسلام وكان ذلك زمن الانحطاط، ألم يتحدث أحمد أمين في «فجر الاسلام» عما أخذه العرب عن الفرس من مفردات جديدة طالت ميادين الفنون والمهن والادارة والتحرير العمومي؟ أو لم تكن بعثة بونابارت في مصر في نهاية القرن الثامن عشر منطلقا لتأثيرات عمت مختلف أوجه الحياة بما فيها اللغة؟ إننا نحتاج اليوم الى استفاقة عربية ندخل بها بلغتنا الى الحاضر والمستقبل ونوحّد بها شعوبنا وحدة حقيقية. وحدة فكر وثقافة قبل كل شيء.