تحدثت في الحلقة الماضية من هذا الركن عن الرثاء الذي هو تعداد محاسن الميت من قبل أهله وأحبائه وأصدقائه، ولكن هناك من رثى نفسه بنفسه خلال الزمن الفاصل بين أخريات أيام حياته في الدنيا وبين الاقبال على أول عهده بالآخرة. فقد حدثنا التاريخ عن الشاعر أبي فراس الحمداني أنه لمّا شعر بقرب أجله وشاهد جزع ابنته عليه جعل يشجعها ويصبّرها ويذكّرها بأن مصير الجميع الموت ويطلب منها أن تبكيه من خلف الستار والحجاب وإذا ما نادته فلم يجبها أن ترثي شبابه الذي لم ينعم به حيث كان عمره قصيرا، وهذا هو رثاؤه لنفسه يتوجّه به الى ابنته: أبُنيّتي لا تجزعي كل الأنام إلى ذهاب نُوحي عليّ بعبرة من خلف سترك والحجاب قُولي إذا ناديتني فعييتُ عن ردّ الجواب زينُ الشباب أبوفرَا س لم يُمتع بالشبابْ أمّا الشاعر حافظ ابراهيم، فقد كان رثاؤه لنفسه مدحا لمكارم أخلاقه، كما كان نهيا لقلبه عن الجزع والخوف من الموت لأن قلبه بعد الموت لن يتألّم أو يتوجّع، وهو يؤكد أن رجله لم تسرجه يوما الى مكان يكون فيه إذلاله وأن يده لم تمدّ الى مسألة، وأن عينه سوف تجمد فلن تسكب دمعا ولا دما بعد الآن، فهو يقول: أيا قلب لا تجزع، إذا عظّك الأسى فإنك بعيد اليوم لن تتألمّا ويا عين قد آن الجمود لمدمعي فلا سيل دمع تسكبين ولا دما ويا يد ما كلّفتك البسط مرّة لذي منّة أولى الجميل وأنعما ويا قدمي ما سرت بي لمذلّة ولم ترتق إلاّ إلى العزّ سلّما فلا تبطئي سيرا الى الموت واعلمي بأن عزيز القوم من مات مُكرما وقد يوصي المرء بأن يُكتب رثاؤه على قبره وأن يكون خطابا موجّها الى كل من يقف على قبره وذلك بغاية الموعظة والاعتبار، فقد أوصى ابن الخطيب الأندلسي بأن تكتب على قبره هذه الأبيات التي يصبح فيها الميتُ واعظا دون أن يتكلم، ويصبح فيها بجثمانه مجاورا للبيوت ولكنه بعيد بروحه عن هذه الدنيا، دون أن ينسى ابن الخطيب التذكير بما كان عليه من عزّ وجاه وما أصبح عليه من جثة هامدة وعظام نخرة حيث يقول: بعدنا وإن جاورتنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت وأجسامنا سكتت دفعة كجهر الصلاة تلاه القنوت وكنا عظاما فصرنا عظاما وكنّا نقوت فها نحن قوت وكنّا شموس سماء العلى غربنا فناحت علينا البيوت وكم سيق للقبر في خر قة فتى مُلئت من كساه التخوت فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ومات فمن ذا الذي لا يموت ومن كان يفرح منكم له فقل يفرح اليوم من لا يموت أما الطبيب ابن زهر فقد تراءى له أن التراب الذي يمشي عليه برجليه سوف يكون متساقطا على خدّه، وأنه إذا كان يُداوي الناس حذر الموت، فإنه سيصبح رهين الموت ولن ينفعه علمه وطبّه حينذاك، فيقول مخاطبا من يقف على قبره: تأمل بحقّك يا واقفا ولاحظ مكانا وقعنا إليه تُرابُ الضريح على وجنتي كأنّي لم أمس يوما عليه أداوي الأنام حذار المنون وها أنا قد صرت رهنا لديه ومن طريف ما يتصل بموضوع الرثاء أنّ صديقا مرّ بقبر صديقه فسلم عليه ولكنه لم يسمع منه ردّ السلام فأنشد يقول: مالي مررت على القبور مسلّما قبر الحبيب فلم يردّ جوابي أحبيب مالك لا تجيب مناديا أمللت بعدي خلّة الأصحاب؟؟؟ ثم إنه تخيّل بأن صاحب القبر يجيبه ويعتذر له بقوله على لسانه: قال الحبيب وكيف لي بجوابكم وأنا رهين جنادل وتُراب؟ أكل الترابُ محاسني فنسيتكم وحُجبت عن أهلي وعن أصحابي وتمزّقت تلك الجلود صفائحا يا طالما لبست رفيع ثياب وتساقطت تلك الأنامل من يدي ما كان أحسنها لخطّ كتاب وتساقطت تلك الثنايا لؤلؤا ما كان أجملها لردّ جواب وتساقطت تلك العيون على الثرى يا طالما نظرت الى أحبابي هكذا كان رثاء بعضهم لأنفسهم وهم يقبلون على أولى أيام الآخرة حزنا على فراق الأحبّة، وتحسّرا على نعيم الدنيا، واسترجاعا لعهد مضى ولن يعود استعدادا للدخول في عالم البقاء والخلود. التخوت: ج. تخت، وهو المركب البحري القنوت: دعاء صلاة الصبح يُقرأ سرّا إثر القراءة الجهريّة. جنادل: ج. جندل وهو الصخرة والحجارة الكبيرة. الثّنايا: الأسنان