إسرائيل... مرة أخرى... هذه المرة لن يتعلق الأمر باستيطان يبتلع الضفة الغربية أو بتهويد يكتسح القدسالشرقية أو بقوانين عنصرية تنغص على فلسطينيي الخط الأخضر حياتهم أو حتى بحملات المداهمة والاعتقال التي دأبت عليها إسرائيل والتي استحالت لدى وكالات الأنباء العالمية خبرا هامشيا وثانويا لا يكاد يذكر.. وإنما يرتبط الحال بقناة تلفزيونية إسرائيلية ناطقة باللغة العربية وموجهة إلى مستعملي هذه اللغة وعلى مدار الساعة... إسرائيل التي يجند لها الغرب عامة ترسانته الإعلامية للدفاع عن سياساتها في المنطقة العربية.. أبت إلا أن تغزو الفضاء الإعلامي العربي بقناة تلفزيونية تخاطب بها العرب وتدخل بها ضمن منظوماتهم الفكرية والإدراكية... على الرغم من علمها المسبق بالفشل الفادح الذي حاق بالقناة الأمريكية الناطقة باللغة العربية «الحرة» وبالإذاعة الأمريكية «سوا».. وعلى الرغم من علمها المسبق بأن الذاكرة العربية تستبطن محددات فكرية وأخلاقية وثقافية وسياسية وتاريخية تجعل من تجاوز المجازر والقفز على أنقاض الاحتلال والمرور على دمار الاستعمار... أمرا مستحيلا... ورغم كل ما سبق... يتمسك الصهاينة بقرار إطلاق قناة تلفزيونية.. يقولون عنها إنها لن تصحح صورة إسرائيل لدى العالم العربي وإنما ستقدم الحقيقة الواقعة في إسرائيل كما هي ومن دون «تزويق».. أو «تحريف».. لكأن عشرات الالاف من المراسلين والمبعوثين العرب والغرب إلى تلك المنطقة المشتعلة يحرضون على إسرائيل أو يزايدون على سياستها وساستها. بيد أن الأمر في تقديرنا.. أخطر وأعظم وأعمق.. من مجرد إطلاق قناة تلفزيونية تخاطب الطرف الهدف.. فعندما يتعلق الأمر بإسرائيل يحيلك الخبر على السياق اليا ويضعك في صميم الصراعات والتناقضات الدولية العاصفة بالمنطقة العربية.. وأول هذه السياقات ضمان إسرائيل لاعتراف النظام العربي بها جهرا لا سرا عبر المبادرة العربية للسلام وحضوره في مؤتمر أنابوليس.. مما يسر لها التوجه إلى الشعوب التي تمثل خط الدفاع القومي الأخير عن القضايا العربية المصيرية... ثانيها الدخول إلى عقول مؤيدي المقاومة العربية للتلبيس عليهم ولضرب رباط الثقة الموجود بينهم وبين المقاومة لعزلها عن حاضنتها الشعبية التي استبسلت في حرب لبنان 2006 والعدوان على غزة 2009 . ثالث الأطر.. الدخول إعلاميا على حبل المشاكل العربية القائمة لمزيد تعميق الانشقاقات وجعل الخلاف هو الأصل في العلاقات وليس الاستثناء.. رابعها تحويل ثقافة الاستسلام والخيانة إلى موقف بعد أن صيّر المجتمع الدولي وبعض العواصم العربية والأطراف الفلسطينية المقاومة والكفاح المسلح إلى إرهاب وفوضى... خامس السياقات.. تشويه التاريخ العربي والإسلامي القديم والوسيط والمعاصر والحديث.. وضرب المثل الفكرية والأخلاقية والسياسية التي تمثل أسس ومعايير الشخصية العربية.. وفي المقابل إعادة كتابة تاريخ «حديث» جديد يكون فيه استسلام النظم والجيوش العربية والفصائل الفلسطينية.. مهيمنا على المشهد.. وفعل المقاومة.. مهمشا. العجيب.. أن هجمة القنوات الأمريكية والإسرائيلية.. جاءت عقب هجمة إعلامية سابقة عربية اللسان والمال وغربية الرؤى والأهداف.. اختزلت المرأة في جانبها الجسدي واختصرت الفن في جزئه الاستعراضي وسلبت من المشاهد العربي كثيرا من عقله وأخلاقه وعرفه وتقاليده.. كما جاءت بعد انقضاض إعلامي.. عربي.. آخر.. أخرجنا من اللحظة ورمانا في الماضي السحيق.. وفي الحالتين صار المتلقي العربي على هامش الواقع واللحظة... وصارت عملية «قولبته» أسهل من ذي قبل بكثير. والأعجب أن ..العالم العربي إلى حد اللحظة لم يخرج إلى العالم وإلى الأقاليم الأخرى التي باتت تحاوره طوعا أو غصبا بإعلام ذي تصور واضح على نفسه وعلى الاخرين حتى يستقطب مؤيدين لقضاياه العادلة والشرعية ... قد يكون لأنه لم يأل على نفسه جهد محاورة ذاته.. وقد يكون أيضا لأنه فقد السمع والإبصار والكلام ...