فجأة أصبح قلب وعقل الجمهور العربي مجال منافسة إعلامية عربية وغربية شرسة، فالجميع يتسابقون ليقدموا له الخبر فور حدوثه، والتحليل الدقيق، والحقيقة بكل نزاهة وشفافية وموضوعية! لم يقتصر الأمر على الفضائيات العربية التي تتوالد أسبوعيا، بل دخل حلبة المنافسة فضائيات أجنبية أطلقت قنوات جديدة لها ناطقة بالعربية مثل: "الحرة الأمريكية" التي عرفناها منذ أعوام، و"روسيا اليوم" التي بدأت قبل أيام، و"فرانس 24"، والقناة الألمانية "دويتشه فيلله"، و"BBC البريطانية" والتي ستنطلق قريبا. مسئولو هذه الفضائيات الجديدة أطلقوا مجموعة من الشعارات عن التواصل والموضوعية وخدمة الجمهور العربي، فمثلا: "أكرم خزام"، المنتج العام للقناة الروسية، أشار إلى أن روسيا تتعامل مع حقيقة مفادها أن "التلفزيون له تأثير؛ فلماذا تتجاهل روسيا هذه الأداة، ولا سيما في مثل تلك المنطقة المضطربة؟" و "التحدي هو اكتساب المصداقية في منطقة ترسخ فيها انعدام الثقة في السياسات الغربية، بل وتزدحم فيها موجات الأثير بالبدائل". ورأى خزام أن مدخل المحطة للتغطية سيكون "مهنيا ومحترفا" يقوم على تناول أبرز الأحداث العالمية بحسب أهميتها ولا أفضلية للخبر الروسي على الخبر العربي لتبقى "الموضوعية والحيادية" معيارين أساسيين. ودافع "دانيال دود"، مسئول إستراتيجية الصحافة في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن الخدمة العربية التي تزمع الهيئة تقديمها، معتبرا أن تلك الخدمة ستمثل إضافة نوعية للقنوات التلفزيونية التي تبث إلى الشرق الأوسط، وستنتهج أكبر قدر ممكن من التوازن والنزاهة والحياد. أما "فرانس 24"، القناة الفرنسية التي بدأت بثها لأربع ساعات يوميا تقدم خلالها 80 % من برامجها مماثلة للبرامج التي تبث باللغتين الفرنسية والإنجليزية، بينما تركز في 20 % منها بشكل عام على العالم العربي، وتهدف الإدارة العربية للقناة إلى انتهاج سياسة تميزها عن المحطات الإخبارية العربية واستغلال علاقة فرنسا القوية بالعالم العربي. مؤسسة "دويتشه فيلله DW" (صوت ألمانيا الحر) والتي انطلقت عام 2005 ببث بالعربية يُجرى تباعا زيادة ساعاته في إطار خطة المؤسسة لتفعيل الحوار الحضاري مع العالم العربي، حيث تسعى المحطة للوصول لأكثر من 10 ملايين مشاهد في أكثر من 20 دولة عربية عبر بث يصل إلى 12 ساعة يوميا. الدانمارك التي خرجت من أزمة عالمية بين الشرق والغرب في مطلع العام الماضي تحاول أن تحجز نصيبها، حيث يدور حديث في أوساط "حزب الشعب الدانماركي" عن إطلاق برامج تلفزيونية وإذاعية موجهة للعالم العربي. في السياق ذاته، تستمر قناة "الحرة" الأمريكية في البث -على الرغم من جميع الانتقادات والمشاكل التي مرت بها- والتي هدفت بحسب القائمين عليها إلى "الترويج للحرية والديمقراطية من خلال إعطاء معلومات موثقة للمشاهدين أو المستمعين". "سامي الشريف"، الأستاذ بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، يرى أن القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية النتاج الطبيعي لعولمة الإعلام، ففي ظل العولمة من الطبيعي أن تحرص المؤسسات الإعلامية الأجنبية على تقديم خدماتها باللغة العربية لجذب أكبر عدد من الجمهور وتحقيق هدفها أينما كان. فيما يشير الخبير الإعلامي المغربي "يحيى اليحياوي" إلى جانب آخر مرتبط بعولمة الإعلام يتمثل في أن المنطقة العربية أضحت مكانا لتسابق البث بلغتها منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واحتلال أفغانستان ثم العراق. ويتابع اليحياوي: "صحيح أن العديد من الفضائيات كانت موجهة لهذه المنطقة من ذي قبل، لكنها لم تكن بالحدة، فالمنطقة العربية أضحت منذ نصف عقد من الزمن في قلب الأحداث الكبرى، ومخاطبتها بات مسألة جوهرية، بغض الطرف عن الأهداف المرتجاة، وهي كلها للتأثير دون شك". أما "صفوت العالم"، الأستاذ بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، فيؤكد أن الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية امتداد طبيعي للإذاعات الأجنبية الناطقة بالعربية في عصر أصبحت فيه الصورة في حد ذاتها خبرا ومادة إعلامية، ومن ثم حرصت المؤسسات الإعلامية الأجنبية على أن يكون لها نصيب في الشاشة العربية، فتنفذ من خلالها إلى عقل المشاهد العربي لتقدم له وجهة نظر دولتها في القضايا المختلفة. يرى"صفوت العالم" أن: "المتابع لهذه القنوات يلاحظ أن سياستها الإعلامية تعكس ثقافة الدولة التي تصدر منها، وثقافة شعبها وعاداته بصورة دعائية واحتراف إعلامي يخدم سياساتها، فقناة "الحرة" مثلا تعطينا صورة لأمريكا التي لا نعرفها، وتنتقد الأنظمة العربية التي تحتاج إلى إصلاح على الطريقة الأمريكية، وتنظر إلى القضية العراقية والفلسطينية من وجهة النظر الأمريكية مطالبة إياهم بالاعتدال، ونبذ العنف و"الإرهاب". ويؤكد أنه "لن تختلف الصورة في القناة الألمانية والفرنسية والروسية، فكل قناة تعبر عن وجهة نظر دولتها تجاه القضايا المثارة في الشرق الأوسط والعالم بأسره في محاولة منها لتضييق الهوة الثقافية والفكرية بين الشرق والغرب ولكن على طريقتها وعلى نمط فكرها، خاصة أنها ممولة من حكوماتها وليست قنوات خاصة". أما الباحث المغربي "عبد الهادي مزراري" فيرى في خط هذه القنوات التحريري أنه ذات الخط بلغاتها الأصلية، ولهذا لن نسمع عن "استشهاد فلسطيني برصاص قوات الاحتلال" مثلا، ولكن سنسمع عن مقتل مسلح أو متطرف أو مبحوث عنه برصاص الجيش الإسرائيلي، كما لن نسمع مصطلحات "كالمقاومة والمقاومين والاستشهاد" لتحل محلها مصطلحات "الإرهاب والمتطرفين"، وفي أحسن الأحوال الحديث سيكون عن "انتحاريين". ويتابع: هدفها التحكم في "العقل العربي"، وهو تحكم تم ويتم بوسائل أخرى وعبر قنوات عربية تؤدي هذا الغرض بشكل أقوى. ويرى "اليحياوي" أن المحطات الإذاعية أو التلفزيونية -الأرضية أو الفضائية - تعبر قطعا عن الجهة الممولة لها، أو الداعمة لتوجهاتها، وإن عن بعد. ويقول: "لا أتصور أن ثمة حيادية تذكر، أو موضوعية في التناول من لدن هذه المحطات سواء بلغاتها الأصلية، أو عندما تكيف إرسالها بلغة هذه الجهة من العالم أو تلك. فكل محطة تحاول أن تضبط خطابها وفق الجمهور المستهدف والغاية المرجوة". أين المشاهد العربي؟ لا يخشى "صفوت العالم" على المشاهد العربي من هذه القنوات ففي عصر الفضائيات هناك حرية انتقائية، ففي الدقيقة الواحدة ينتقل المشاهد بين عشرات الفضائيات العربية والأجنبية، ينتقي منها ما يناسبه، بل ينتقي من برامجها ما يناسب عمره وميوله وفكره". يؤكد أن القنوات بذلك لا تمثل أي منافسة أمام التنوع الفضائي الإعلامي، بل تعيد إلى الأذهان فكر وأسلوب الإعلام الأرضي الحكومي الذي انتقل إلى الفضاء دون أن يغير طريقته. "المزراري" يرى أن المشاهد العربي مستهلك بامتياز، وبطبيعة الحال كلما وفرت له هذه القنوات ما يشتهيه ستكون شهيته أكبر. "محمد ماهر"، مساعد مدير البرامج بقناة "دريم الفضائية" لا يرى أي منافسة بين الفضائيات العربية الخاصة والأجنبية نظرا لاختلاف الأهداف، ويرحب بالقنوات الجديدة ويتمنى زيادتها كونها تمنح الإعلام العربي خبرات إعلامية جديدة أكثر مهنيا واحترافيا. ويضيف: يمكن للقنوات العربية الاستفادة من الإعلام الغربي وملاحقته، ففي أقل من 15 عاما وهو عمر الفضائيات العربية الخاصة استطاعت جذب المشاهد وسحب البساط من القنوات الأرضية والفضائيات الرسمية الحكومية، فالمتلقي العربي لديه من الثقافة ما يكفيه لفهم السياسات المدعمة لأي قناة جديدة وهو من سيختار. إيجابيات.. ولكن.. لا ينكر "سامي الشريف" استفادة الإعلام العربي من منافسة القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية، خاصة القنوات الأرضية والفضائيات الحكومية التي غيرت وستغير من فكرها وسياساتها الإعلامية، فأدخلت برامج مثل "التوك شو"، و"المناظرات السياسية والحوارية"..إلخ، ما يؤكد إحساسها بالمنافسة، وخوفها من هرب جمهورها، ورغبتها في صرف المشاهد العربي عن متابعة هذه القنوات، فألزمها ذلك بتطوير أدائها وتوسيع دائرتها الإعلامية للرأي والرأي الآخر. أما "عبد الهادي مزراري" فيرى أن هذه القنوات تحمل بعض الإيجابيات ومنها التعرف على زوايا المعالجة التي ينظر منها الآخرون إلينا، ووضع الأصبع كذلك على نقاط معالجة بعض القضايا إعلاميا وبطريقة غربية، وأن مستقبل هذه القنوات لا يتوقف على تعامل المشاهد العربي معها، وإن كان هناك في البداية عزوف عن مشاهدتها لأن ميزانياتها مرصودة والعمل على الاستمرار في بثها مسألة مدروسة. ويرى "جهاد بلوط"، المتحدث باسم قناة العربية الفضائية، أن المنافسة موضع ترحيب، كونها تعطي مزيدا من الخيارات للمشاهدين. ويضيف: "أما من وجهة نظر مشروعات الأعمال فإن السوق تعتبر مشبعة، والكعكة محدودة للغاية". ويشكك "بلوط" في سبب قيام المؤسسات الإعلامية الأجنبية بالتخطيط لاستثمارات كبيرة من المرجح أن تستغرق سنوات قبل أن تجيء بمردودها، وهذا يؤكد أن أهدافها ليست استثمارية ولا إعلامية. الدكتور "عبد الحكم أبو حطب"، أستاذ الصحافة والإذاعة بجامعة طنطا بمصر أشار في بحثه "تأثير الفضائيات على المشاهد والإعلام العربي" إلى أن الإعلام العربي تأثر بالتطورات الراهنة في تكنولوجيا الفضائيات، والتي بثتها الفضائيات الغربية، فأفرزت نمطا اتصاليا يتميز بسمات تختلف عن الأنماط الاتصالية التقليدية، هذا النمط أحدث تغييرات نوعية في أنماط ومستويات الخدمة الإخبارية في القنوات العربية وأسفر هذا التغير عن حدوث تغيّر جذري في تعريف الخبر وتطور الوظيفة الإخبارية، حيث اتسع مجال تقديمه من خلال الإعلام المرئي وأصبح يبث لحظة بلحظة سواء كان داخل المنطقة العربية أو خارجها، كما انتشر الإعلام العربي ليصل إلى جميع القارات عدا بعض الدول كأستراليا. ويقيم أبو حطب أداء الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية مؤكدا اعتمادها في تقديم المعلومة على حوار ضيوفها أكثر من الخبر المرئي، وهو ما يقلل من مصداقية الخبر، ويجعلها غير حيادية في نظر المشاهد، كما تعتمد على المواد المترجمة، وهو ما يفقدها الروابط اللغوية بين الجمل أو ما نطلق عليه "الدبابيس الصحفية"، ما يقلل من معنى الجملة وجمالها البلاغي وبالتالي تأثيرها. ------------------------ صحفية مصرية. صحفي مغربي مهتم بالشأن الثقافي.