تقشعر الأبدان خشوعا عندما تتردد صرخات الجنود في جنبات «مسجد عيسى» بولاية المنستير وهم يكررون وراء العقيد عبارات القسم والولاء للوطن أثناء تقديمهم للعلم بعد أن أتموا تدريبهم العسكري الأولي الذي يدوم عشرة أسابيع. يطوف عليهم العقيد آمر الثكنة ويحييهم تحت ألحان الموسيقى العسكرية وإيقاعاتها في مشهد خاشع تغرق فيه عديد العيونالشابة بالدموع. لحظات قوية، مؤثرة ونادرة في حياة العسكري الشاب يلتحم فيها بالوطن ويرى العلم الوطني رمزا تهون لأجله الروح. «لقد أصبحتم اليوم قادرين على الدفاع عن الوطن وصيانة مكاسب الشعب، ويحق لكم أن تتقدموا لتحية العلم الذي هو رمز الوطن»، يقول لهم العقيد ذلك مذكرا ببطولات الشهداء وكل من ضحى لأجل عزة البلاد ومناعتها، يستعرض الوحدات المنظمة بعناية وانضباط لا يتقنه إلا العسكر. كانت تلك نهاية الدورة التدريبية الأولى لسنة 2010 بثكنة مسجد عيسى بولاية المنستير، والتي دعتنا إليها وزارة الدفاع الوطني في إطار احتفالاتها بالسنة الدولية للشباب واستعدادا للذكرى الرابعة والخمسين لانبعاث الجيش الوطني. بعد ذلك نكتشف أن «تقديم الجنود المستجدين إلى العلم» ليس مجرد أداء للقسم، بل هو مهرجان كامل يتضمن استعراضات متنوعة للانضباط العسكري وتقديم الجوائز للمتميزين منهم، كما نكتشف أن للعقيد آمر الثكنة دورا معنويا كبيرا في تقديم النصائح للجنود حول مستقبلهم سواء في الثكنات التي سوف يتم توجيههم إليها أو بعد إتمام واجبهم العسكري. يسأل الكثير منهم عن ظروفهم وطموحاتهم وهم في بداية الحياة، ينصح الكثيرين منهم بالانخراط في برامج التكوين المهني العسكري المفتوحة للجميع مذكرا بالقوانين التي تجعل شهائد التكوين ذات صلاحية في بعث المشاريع والحصول على قروض فيما بعد. كما يخصص العقيد ومساعدوه في الثكنة وقتا هاما لتذكير الجنود بما تعلموه من ضرورة الانضباط الكامل لدستور البلاد وقوانينها وأن يكونوا قدوة لغيرهم. تدريب ورسكلة يعد المركز الثالث لتدريب الجنود المستجدين بمسجد عيسى من أشهر ثكنات التدريب العسكري في تونس رغم حداثة إنشائها الذي يعود إلى عام 1983، وهي تقدم التكوين الأولي للجنود المدعوين والمتطوعين بالإضافة إلى «ضباط الحصة» وهم من الجامعيين الذين سيتوجهون فيما بعد إلى الأكاديميات العسكرية. كما يساهم هذا المركز عند الضرورة في تدريب جنود التعيينات الفردية وفي رسكلة جيش الاحتياط. ويضيف العقيد آمر المركز أن الثكنة تظل مثل كل المؤسسات العسكرية في تونس جاهزة ومستعدة للقيام بالواجب والمهام التي توكل إليها مثل التدخل لمساعدة المواطنين عند الضرورة في الحوادث الكبرى والكوارث الطبيعية وفي رفع مخلفات الحرب العالمية الثانية وغيرها. يدوم تكوين المجندين عشرة أسابيع، وهي مثل العديد من الثكنات تستقبل الشباب المجند والمتطوعين المنتدبين من الجنسين للعمل في صفوف الجيش، رغم أن نسبة الفتيات ما تزال دون العشرة بالمائة، وهن يخضعن لنفس التدريب والانضباط مثل الذكور تماما. قال لنا أحد الضباط في الثكنة: «لم يعد أداء الواجب العسكري محنة كما كان في عهد الاستعمار، والمجندون يكتشفون اليوم في الثكنات المزايا الجيدة للعيش العسكري، بدءا بالفحوصات والتلاقيح الطبية والتأهيل البدني الجيد، وصولا إلى الانضباط والاندماج في المجموعة وتحمل المسؤولية مرورا بالتكوين في القتال والسلاح ومعرفة الوطن وحدوده وقيمه والعديد من قوانينه». إطلاق النار مثل كل الثكنات، يثير الانضباط المطلق والنظافة التامة إعجابنا ونحن نطوف ثكنة مسجد عيسى حيث كل شيء في مكانه تماما وحيث كل واحد يعرف واجباته جيدا. نحضر العديد من حصص التدريب والتكوين التطبيقي للجنود والتلاميذ الضباط مثل استعمال أجهزة الإشارة والاتصال وتعلم تحديد الاتجاهات في الليل والنهار. غير أن تعلم استعمال السلاح dظل أكثر فترات الزيارة تشويقا. يتعلم الجندي كيف يفكك الرشاش ويعيد تركيبه في أقل من دقيقة. يسمي أجزاءه قطعة قطعة قبل أن يمر إلى المرحلة الأهم وهي الرماية. إجراءات كثيرة يتبعها المدربون قبل الوصول إلى الرماية في شكل أوامر. نزع زر الأمان وأخيرا إصدار الأمر بإطلاق النار على الأهداف. يهتز المكان بدوي الرصاص وتعم رائحة البارود المكان، «إنها أحد أكثر وجوه الحياة العسكرية إثارة للحماس» كما يقول لنا أحد الضباط، قبل أن نرى الجنود ينتظمون في صفوف تثير الإعجاب بانضباطهم وهم يستعدون للمرحلة الموالية من حياتهم العسكرية.