فعلى عكس انتخابات ومواعيد سابقة مُماثلة حازت عضوية المجالس البلدية على اهتمامات قطاعات واسعة من المجتمع وداخل مختلف الأحزاب السياسية بما فيها الحزب الحاكم، حيث أحدثت مرحلة تقديم الترشحات رهانات حقيقيّة أكّدت مبدأ التنافس الحزبي لضمان مقعد ضمن القائمة النهائية المترشحة للانتخابات والمؤهلة لدخول المجالس البلدية للخماسية المقبلة، وربّما وبحسب متابعين لشأن التجمّع الدستوري الديمقراطي فإنّ الحزب اختار في هذا الموعد الانتخابي المرور إلى مرحلة جديدة على مستوى تمكين قواعده ومناضليه من ممارسة الديمقراطية الداخلية على أوسع نطاق وفي أجلّ مظاهرها، وكما أشارت إلى ذلك «الشروق» في عدد سابق فإنّ الديوان السياسي للحزب الحاكم اضطرّ في مناسبات إلى التدخّل وتعديل بعض المسائل الترتيبيّة المتعلّقة بالقائمات النهائية بناء على رغبات بلغ البعض منها حدّ الاحتجاج من مناضلين قاعديين. الاختلاف والقبول بالرأي المخالف الحراك داخل الحزب الحاكم أحد أهمّ المؤشرات التي يُمكن على ضوئها استشراف مستقبل العمل السياسي والحزبي في تونس خلال المرحلة المقبلة، ناهيك وأنّ الأحوال داخل هذا الحزب تبقى دوما محرارا لمدى تطوّر المشهد السياسي الوطني بحكم الامتداد الجماهيري والقطاعي وتأثير ذلك على عموم الساحة، فقدر تشبّع التجمعيين بمبادئ الديمقراطية والاختلاف والقبول بالرأي المخالف بقدر ما سينعكسُ ذلك على خصوصيات المشهد السياسي ككلّ. ومن المهمّ في هذا الباب التأكيد على مؤشّر ثان لا يقلّ أهميّة عن الأوّل وهو أنّ السباق الانتخابي الحالي وخاصة في مرحلتي تقديم الترشحات وبدرجة أقلّ خلال الحملة الدعائيّة كشف عن بقايا لسلوكات مخلّة بالتنافس النزيه والتعددي، ووجّهت أحزاب معارضة ومشاركون في الانتخابات اتهامات صريحة وعلنيّة الى بعض مناضلي وإطارات محليّة وجهويّة للحزب الحاكم بدعوى التضييق وإيجاد الصعوبات و«تنفير» المواطنين من «العمل المعارض»، هذه الاتهامات تناولها الإعلام ومنها التلفزة الوطنية (وصحيفتنا) بشكل حرفي على لسان أصحابها وأوجدت تفاعلا من قيادة الحزب الحاكم المركزيّة الّتي سارعت إلى التأكيد على التمسّك المبدئي الواضح بالخيار التعدّدي والديمقراطي وتمّت مُلاحظة ذلك بالخصوص في الاجتماعات العامة التي عُقدت بمناسبة افتتاح الحملة الانتخابية واختتامها. سياسة و خصوصيات اجتماعية غير أنّه من الواضح أنّ محدوديّة ثقافة التعدّد والقبول بالطرح المخالف والذي من مظاهره القصوى تواصل التداخل بين المعطى الحزبي والمعطى الإداري والّذي انحصر في جهات داخلية ونائية ، لا يستندُ إلى مرجعيات حزبيّة أو سياسية فهو وكما أوضح ذلك السيّد محمّد بوشيحة الأمين العام لحزب الوحدة الشعبيّة في حديث له لموقع «السياسيّة» الالكتروني يعود أساسا إلى خصوصيات اجتماعية خاصة في الأرياف حيث تكون العوامل العشائرية والقبلية مؤثرة ومُعيقة للعمل السياسي المعارض، وهذا الأمر يحوّل التعددية المحلية إلى رهان وطني شامل يهمّ كلّ الفاعلين في الساحة السياسية من إدارة وحزب حاكم وأحزاب معارضة وإعلام والفعاليات المدنية المختلفة المطالبة بعمل جهود إضافيّة لتعميق الحس المدني على امتداد مناطق وجهات البلاد ونشره بالقدر المطلوب بين كلّ الفئات والقطاعات المجتمعيّة استنادا إلى رؤى وتوجّهات رئاسية واضحة أكّدت ولا تزال على أنّ الخيار التعددي هو أحد أهمّ المداخل لتحقيق انتقال البلاد إلى مصاف الدول المتقدّمة وكسب رهانات الحاضر والمستقبل. تقنيات انتخابية وتداخل مسألة أخرى أفرزتها مراحل ما قبل الاقتراع وفرز الأصوات وإعلان النتائج وهي المرتبطة بالتقنيات الانتخابية بالأخص على مستوى الترسيم بالقائمات الانتخابية والجهة المؤهّلة للمسك بهذه القائمات «المصيريّة» والحق الدستوري في الحصول على بطاقة الناخب وطرق تقديم الترشحات للجهات الإدارية، وتجرأت أحزاب عديدة على الخوض في هذه المسألة بل إنّ البعض أعلن عن حالة عجز حقيقيّة أمام الصعوبات الّتي أوجدها تنفيذ القانون الانتخابي الحالي وخيّر تخفيض السرعة والانزواء ناهيك عن أنّ حتى الجهود التي تمّ بذلها من طرف البعض بخصوص الاجراءت الترتيبيّة المتعلّقة بالترسيم وبطاقة الناخب والمنصوص عليها بالمجلة الانتخابية لم تؤت أُكلها وثمارها وارتطمت باجحافات لا يُعلم بعد مأتاها. في جانب آخر، وإن لم تمكّن الانتخابات الحالية من تصعيد تراتبيّة جديدة للأحزاب حيث سيُحافظ المشهد على الأرجح على نفس التركيبة والمواقع، فإنّها أي الانتخابات أوجدت معطيات مهمّة جدّا في علاقة بأحجام الأحزاب وخاصة منها المعارضة ومدى انتشارها في الجهات الداخلية وطبيعة المنخرطين في صفوفها بين مناضلين جديين أو مجرّد أرقام انتخابية تُستدعى وتُستنفر في مثل هذه السباقات هذا إضافة إلى تعرية الواقع التنظيمي داخل أكثر من حزب، مع ملاحظة جديّة من قبل البعض القليل من الأحزاب في التعاطي مع الشأن الانتخابي وإعداد العدّة له بالشكل الملائم مثلما كان ذلك حال حزب الوحدة الشعبيّة والحزب الاجتماعي التحرري وحزب الخضر للتقدّم ،وهي الأحزاب التي ابتكرت طرائق انتخابية جديدة وفتحت أبوابها للمناضلين والراغبين في ممارسة العمل السياسي القانوني والمنظم وهي التي أنجزت تحركات هامة في اتجاه الجهات الداخلية خاصة تلك التي ما تزال مظاهر التنمية بها منقوصة. ضعف ومؤشرات ضعف المعارضة، بما فيها تلك التي تحمل يافطة «الحركة الديمقراطية التقدميّة» والتي لم تتوفّق في تقديم قائمة على مستوى مركز النخب والإطارات والأكادميين (دائرة تونس) ذلك الضعف أضحى أمرا واقعا ليس في حاجة إلى أدلّة وأثبتهُ أحد متزعمي هذه الحركة التي تدّعي أنّها جديّة في معارضتها السلطة السياسية والحزب الحاكم الأمين العام لحركة التجديد السيّد أحمد إبراهيم في حديث صحفي له حينما قال: «هناك ضعف حقيقي وعجز لدى أحزاب المعارضة الجدية التي عليها أن تحسن أداءها وتتجاوز انقساماتها وتبني معا حركة ديمقراطية وتقدمية»، في مقابل ارتهان آخرين إلى مقولة «المقاطعة» بعد فشل جهود المشاركة ضمن ائتلافات واسعة، ائتلافات كانت مطلوبة وحاسمة وسط العجز والضعف التنظيمي بهدف تغطية ذلك الواقع بما ينطوي عليه الحديث الموسّع عن الصعوبات وعدم أهليّة المشهد لسباق انتخابي نزيه وشفاف من مسعى الى مغالطة الرأي العام وتوجيهه عن حقائق لم تعد تخفى عن مُراقب نزيه ومُحايد. تلك جملة مؤشرات ملموسة، تدفع إلى الانتظارات الإيجابيّة، ولكنّها مؤشرات تبقى في حاجة مؤكّدة إلى مزيد الإثراء والتعمّق والبحث والتقصّي في أعقاب انتهاء عملية التصويت والانتخاب التي ستجري اليوم ضمانا للتثمين الإيجابي لما أفرزهُ الحراك الانتخابي والسياسي من صور وحقائق ومعطيات أضحت محلّ توافق بين الكلّ.