٭ بقلم: علي الجوادي (إطار بنكي) لقد وفر بعض الفراغ في تحديد مفهوم عالمي موحد لماهية الإرهاب عديد الفرص للكبار ليضللوا الرأي العام الدولي قصد تجريم المقاومة من أجل تبرير الاحتلال، أو التدخل في النزاعات الداخلية عند بعض الصغار لإزاحة الأنظمة التي لا تتناغم مع توجهاتها، أو تتعارض مع مصالحها على غرار ما يجري في العراق وفي فلسطين وأماكن أخرى من العالم. فجورج بوش الصغير أضاف عقب هجمات 11 سبتمبر الأسود على المركز الدولي للتجارة بنيويورك والبنتاغون، حق واشنطن في شن الحروب على دولتين أفغانستان والعراق ذات سيادة بدعوى أنّ الأولى إرهابية ومتوحشة وتمثل خطرا على الأمن العالمي، وأنّ الثانية متخلفة وتملك الأسلحة النووية والكيمياوية وتمثل تهديدا للنظام العالمي. بل ما انفك المحافظون الجدد يشنون حملات شرسة وواسعة النطاق تحت غطاء صدام الحضارات على الذين يهددون توسع الرأسمالية العالمية، وكانت النتيجة انتهاك حقوق الآخرين مع اتهامهم بالتخلف والتوحش والبدائية. قد يكوّن الاختلاف بين الأفراد، عرقا أو لونا أو عقيدة، مع عدم التوازن بين الجهات والاستبداد والفساد نقطة التقاء تشعل العنف بين الناس بحثا عن تقاسم السلطة والثروة أو الانفصال، ولعل العنف الحديث في بعض دول القوقاز والبلقان وفي السودان من هذا القبيل. ولكن الظاهرة الجديدة والتي تغذيها الإمبريالية العالمية، منذ أواخر القرن ال 20، بتحريك من المحافظين الجدد في واشنطن تتمثل في تحويل الانتماء إلى عقيدة مختلفة أو ثقافة أخرى أو طبقة متعارضة، من مؤشر على تنوع خلاق وتعددية مبدعة للإنسانية إلى بدعة لشن الحروب على الآخر المختلف تحت غطاء محاربة الإرهاب الناجم عن التخلف وصدام الحضارات كما يدّعون. ألهذا الحدّ وصل الإفلاس في سياسات التقارب والتسامح بين الشعوب؟ ألم يؤكد المفكرون والباحثون والعقلاء عبر التاريخ على أنّ التواصل بين الحضارات أمر مسلم به، وأنّ أية حضارة مهما بلغت من العراقة والقوة لا يمكنها أن تعيش وتستمر بمعزل عن بقية الحضارات الأخرى؟ أليست العلاقة بين مختلف الثقافات والأديان والأعراق والألوان علاقة أخذ وعطاء؟ ألم يؤكد المفكر الألماني كارل ماركس على أنّ الصراع هو محرك التاريخ ولا يمكن الحديث عنه إلا في ارتباطه بالصراع؟ فعن أي عالم تتحدثون؟ أن ينظر إلى علاقة التواصل بين الحضارات على أنها صدام في ما بينها أمر يستدعي من المفكرين المهتمين بهذه الظاهرة أن يتوقفوا عنده لمحاولة فهم التحولات الجارية وكشف الاستراتيجيات السياسية التي تقف وراءه وتصويب الاعوجاج. لقد جعلت التحولات الجديدة التي يعيشها عالم ما بعد انهيار جدار برلين، من التواصل صداما، لتنقلنا من أرضية المعرفة إلى سياسة الغدر والهيمنة، لأنّ رؤية ذاك الاتصال من زاوية الصدام تخفي وراءها مصالح وتحالفات وبالتالي استراتيجيات سيطرة وهيمنة مثلما يقول بعض المفكرين. فصدام أو حوار الحضارات لا يعني أكثر من المواجهة الهادفة إلى القضاء على الآخر المختلف، بعد أن كان يعني، ولا يزال، عند ماركس تلك الحركة الايجابية التي تصنع التاريخ، بحيث لا يمكن تصور المجتمع خاليا من الصراع والجدل طالما أن الطبقات الاجتماعية مختلفة المواقع داخل العملية الانتاجية ومتضاربة المصالح . أما المشكلة الخامسة التي أعتبرها جوهرية في هذا الموضوع، فهي تتعلق بكيفية التنمية المستقلة وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي لدى البلدان السائرة في طريق النمو التي تواجه مشكلات حادّة بخصوص تشييد تنميتها. وهذه المشكلات أغلبها ناجمة عن تدني مفاهيم وأنماط وسياسات التنمية التي حاكت أنموذج الدول الصناعية الكبرى، الأمر الذي تبلور في تعثر إنماء التخلف؛ إضافة الى المشكلات الناجمة عن أنماط التكامل مع الاقتصاد العالمي في مجال التجارة السلعية وفي الاستثمار والقروض الخارجية ونقل التكنولوجيا؛ وهو ما تجلى في استمرار الموقع المتدني نسبيا لهذه البلدان داخل محيط الاقتصاد العالمي، وفي دوام تبعيتها للدول الصناعية العظمى. فعن أي تنمية يتحدثون؟ يعرف روبار مكنامارا الأمن في كتابه جوهر الأمن بأنه التنمية وأن بدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن. فمكنامارا وزير البنتاغون 1961 -1967 في أمريكا الديمقراطية زمان كنيدي وخلفه جونسون لا يرى الأمن في المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها ولا يراه في القوة العسكرية وإن كان يشملها. لقد أكد مكنامارا أمام الكونغرس الامريكي عام 1961 على نظرية الردع النووي المتدرج، لكن مكنامارا الذي حشر عساكر أمريكا التوسعية في حرب فيتنام الشيوعية عام 1964 عاد وتراجع عن نظريته هذه واتخذ عام 1983 موقعا مغايرا للمذهب الذي سبق أن اعتمده عام 1961 فأكد بأن الكلام عن حرب نووية محدودة ضرب من الحماقة فسلاح مكنامارا الذي استقال من البنتاغون عام 1967 ليقع تعيينه على رأس البنك الدولي للانشاء والتعمير BIRD» «خلال نفس السنة في ترتيب العلاقات الدولية هوالتنمية، واستراتيجية التنمية العالمية بحساب الدولارالامريكي والتي فرضها مكنامارا على المتخلفين قرابة العقدين من الزمن قاعدتها « نجاعة تكاليف» Coût éfficacité وهي مقاربة العلوم الاقتصادية في نظام السوق. ففي المجتمعات الرأسمالية القائمة على مبدإ التنافس والربح يلهث البورجوازيون المحتكرون لثروات المجموعة الدولية وراء البحث عن تزايد المردودية ووفرة الإنتاج. وما إن صارت المردودية غاية في حد ذاتها، ولما بات العامل احدى وسائل تحقيق هذه الغاية مع حمله على مزيد الانتاج والاستهلاك، حتى أصبح رأس المال البشري في صراع إيجابي يحرك التاريخ إلى الأمام كما تقول الماركسية. وأحدث تزايد المردودية في المجتمعات الليبرالية الحديثة عديد الرجات الاقتصادية في دنيا المال والأعمال لعل أوحشها أزمة الخميس الاسود ( 24 اكتوبر 1929 ). فوفرة الانتاج التي فاقت حاجيات أمريكا الداخلية وحاجيات أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى قادت إلى إفلاس عديد المؤسسات البنكية والمالية، وانتهت بانهيار الاقتصاد برمته، ولم تخرج أمريكا من أزمتها هذه إلا بعد تعديلات اقتصادية قام بها الرئيس الديمقراطي روزفالت خلال ثلاثينات القرن ال 20. وثمة سؤال آخر يطرح في هذا الموضوع: هل التنمية في عالم الصغار لا تحقق إلا في نظام الانفتاح الاقتصادي التام الذي يسمح بحرية حركة السلع ورأس المال من البلاد وإليها بدون رسوم قمرقية أو حصص استيراد حمائية أو رقابة على الصرف الأجنبي أوفرض قيود على الاستثمار الأجنبي؟ فعن أي عالم يتحدثون؟ هل تستجيب حكومات الدول الصناعية لنداءات الشعوب حول انقاذ الاجيال القادمة من ويلات الحرب، ومساعدة الفقراء في معركتهم ضد الخصاصة والحاجة، وتطوير الاقتصاديات النامية، ودعم الباحثين في معالجة جحيم الأمراض الفيروسية والمزمنة، عوض إهدار الموارد في الصراعات بين الدول وفي سباق التسلح؟ أليس من الاجدر والمعقول أن يتم تحويل جزء من النفقات العسكرية في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا والمحتكرة للتمويل والتكنولوجيات العصرية إلى مخابر التحاليل العلمية في ميدان الصحة البشرية؟