(إطار بنكي) يعرّف روبار مكنامارا الأمن في كتابه «جوهر الأمن» بأنه «التنمية» وأن بدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن. فمكنامارا وزير البنتاغون (1961 1967) في أمريكا الديمقراطية زمان كنيدي وخلفه جونسون لا يرى الامن في المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها ولايراه في القوة العسكرية وإن كان يشملها. لقد أكد مكنامارا أمام الكونغرس الأمريكي عام 1961 على نظرية الردع النووي المتدرج ولكن مكنامارا الذي حشر عساكر أمريكا التوسعية في حرب فيتنام الشيوعية عام 1964 عاد وتراجع عن نظريته هذه واتخذ عام 1983 موقعا مغايرا للمذهب الذي سبق أن اعتمده 1961 فأكد بأن الكلام عن حرب نووية محدودة «ضرب من الحماقة». فسلاح مكنامارا الذي استقال من البنتاغون عام 1967 ليقع تعيينه على رأس البنك الدولي للإنشاء والتعمير (BIRD) خلال نفس السنة في ترتيب العلاقات الدولية هو التنمية. واستراتيجية التنمية العالمية بحساب الدولار الامريكي والتي فرضها مكنامارا على المتخلفين قرابة العقدين من الزمن قاعدتها «نجاعة تكاليف» «éfficacité - Coûtس وهي مقاربة العلوم الاقتصادية في نظام السوق حيث يبحث الاقتصادي عن كيفية استعمال الموارد المتاحة بطريقة مثلى (Optimal) قصد تحقيق أهداف اجتماعية معينة. ففي المجتمعات المعاصرة الرأسمالية القائمة على مبدإ التنافس والربح يلهث البورجوازيون المحتكرون لثروات المجموعة الدولية وراء البحث عن تزايد المردودية ووفرة الانتاج. وأحدث تزايد المردودية في المجتمعات الليبرالية عديد الرجات الاقتصادية في دنيا المال والاعمال لعل أوحشها أزمة الخميس الأسود (24 أكتوبر 1929). فوفرة الانتاج التي فاقت حاجيات أمريكا الداخلية وحاجيات أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى أدت الى إفلاس عديد المؤسسات المالية والاقتصادية فانهيار الاقتصاد برمته. ولم تخرج أمريكا من أزمتها هذه إلا بعد تعديلات اقتصادية قام بها الرئيس الديمقراطي فرانكلن روزفالت خلال الثلاثينات من القرن ال20. ومع مطلع عصر آل بوش لم تلد «نجاعة» كينايْ و»تنافس» ريكاردو ولا حتى «ترفيه» لافارْ أو «تضخم» فريدمانْ سوى تفاقم البطالة وركود الاقتصاد العالمي لإجبار المجموعة الدولية على إعادة هيكلة اقتصاداتها بالتكيف مع العولمة «الجمرة الخبيثة» التي ما انفكت تستنزف طاقات المتخلفين. وعندما أصبحت المردودية غاية في حد ذاتها وصار العامل احدى وسائل تحقيق هذه الغاية مع حمله على مزيد الانتاج والاستهلاك بات هذا المقهور مسلوبا من منتوجه، لهذا طالبت الماركسية بإرجاع الطاقات المهدورة الى أصحابها وذلك بالقضاء على البورجوازية وبإزاحة البورجوازية يستتب الأمن العالمي يقول الماركسيون. ولما صارت الديبلوماسية علاقات صراع اقتصادي وغزو الاسواق الخارجية بالسلع والبضائع المحلية أضحى السفراء والقناصل جنود معركة التنمية والترويج وحراس توازن التجارة الخارجية بالأساس. لقد بيّن ارغيري ايمنيال في دراسة للتبادل التجاري غير المتكافئ الصادرة عام 1969 بحساب العمل بأن تكلفة السلع المصدرة من بلد ذي أجور منخفضة الى بلد أجوره مرتفعة أكبر بكثير من تكلفة السلع التي يستوردها البلد الأول من البلد الثاني. وفي تعريفه للسياسة الخارجية يقول جيمس روزنو بأنها مجهود كيان وطني في السيطرة على محيطه الخارجي وذلك بصيانة الأحوال الملائمة وتعديل الأوضاع غير المناسبة. فالسياسة الخارجية هي منتوج لقوات محيطية تاريخية واجتماعية يلعب فيها النظام الاقتصادي دورا رئيسيا في تحديد طرقها وبرامجها وفي ترتيب أهدافها وأغراضها لتصبح النزاعات بين الدول بمثابة الحلقة الأخيرة لصراع بين مجموعات اقتصادية تتكالب على غزو الأسواق العالمية. في تحليل له حول الظواهر الاقتصادية لعلاقات الهيمنة بين الدول الصناعية ودول العالم الثالث يقول سمير أمين بأن التبعية هي التي تصنع التخلف، التبعية عبر الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسية والمتفرعة في جل أنحاء المعمورة، شركات غلق أبواب التقدم أمام المتخلفين. فتقدم الدول الصناعية حسب المدارس «النيو ماركسية» لم ولن يحصل لولا تخلف دول العالم الثالث وبالتالي التقدم والالتحاق بركب الدول الصناعية ليس بتسديد تأخر.- Le sous - développement nصest pas un retard à combler عبر الاعانات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية بل بقطع دائرة الهيمنة والنهب بين الوسط والمحيط لأن القوي يهيمن ويفرض لا أسعاره فحسب بل ويوجه أيضا استثماراته ومقاييس مساعداته التكنولوجية ووظائف البنية التحتية التي يريد تطويرها. وأمن الجماهير لم يعد ينحصر في القضاء على التهديدات العسكرية والارهابية بل تخطى ذلك بكثير ليشمل الكفاح من أجل تأمين الاحتياجات الأساسية والضرورية لوجود الانسان كالغذاء والدواء والمأوى. الأمن هو مكافحة الفقر ومقاومة الأمراض الخبيثة لقد توصلت تقارير الأممالمتحدة مع مطلع القرن ال21 الى أن مستويات المعيشة في الدول ال50 الأكثر فقرا في العالم أصبحت أدنى مما كانت عليه قبل 30 سنة وأن معدلات الوفايات الناتجة عن العنف بمختلف أنواعه منتشرة بحدّة في الدول الأكثر فقرا والأشد ضعفا في العالم. ومن ضمن ما اتفق عليه زعماء الاقتصاديات الغربية الكبرى في «المؤتمر الدولي حول تمويل التنمية» والذي عقد في مدينة مونتيري المكسيكية خلال شهر مارس 2002 زيادة ما يقدمونه من مساعدات الى افريقيا حيث يقدر عدد الأشخاص المهددين بالموت بسبب المجاعات ما لا يقل عن 25 مليون شخص، إلا أن المواجهة لا تزال قائمة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تريد تقديم مواد غذائية معدلة جينيا كمساعدات إنسانية والبلدان المحتاجة التي تفرض هذه الأغذية على الرغم من أنها تعاني من الخصاصة والمجاعة. فالتاريخ سيسجل بحروف من ذهب شهامة الغرب لو يوجه ما زاد من موارد لدعم جهود التنمية في الجنوب عوض إهدارها في الصراعات بين الدول وفي سباق التسلح. وقد حذر الخبراء أيضا من أن الصين وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا باتت على وشك أن تشهد انفجارا في تزايد المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية الى جانب ضحايا نقص المناعة المكتسبة في جنوب افريقيا على وجه الخصوص وتفاقم ضحايا السرطان في الغرب خاصة وفي العالم عامة. أليس من الأجدر والمعقول أن يتم تحويل ولو جزء من النفقات العسكرية في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا الى مخابر التحاليل الطبية؟ الأمن هو معالجة الخلل الديمغرافي والكوارث المناخية تشير التوقعات الى ارتفاع عدد سكان العالم الى 9.8 مليار نسمة بحلول عام 2050 وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الرقم يبعث على الراحة ويزيل مصادر القلق السابقة بشأن اشتداد الزحمة البشرية في الكرة الأرضية ومخاطر استنفاد الموارد، إلا أن من سمات المجتمعات المتطورة اقتصاديا، انخفاض معدلات الولادة وتغيير التركيبة السكانية وارتفاع نسبة الكهول فيها لا سيما في أوروبا التي تشهد تنامي هذه الظاهرة بسرعة مما يدفع قوى العمل الشابة لسد حاجيات السوق واستمرار نظامي الضرائب والرفاه الاجتماعي ثم ان عملية استيراد قوى العمل وفقا لاحتياجات البلاد التي تشكو من انكماش ديمغرافي يساوي هجرة أدمغة بالنسبة الى البلدان المصدرة وبالتالي إصابتها بإعاقات هيكلية. والأرض لم تعرف أقوى موجات الحرارة على الاطلاق كالتي عاشتها خلال الثلاث سنوات الأولى من القرن ال21، كما تشير التقديرات في مجال المناخ والبيئة الى أن «ضباب التلوث البني» الذي يغطي آسيا يتسبب في تقلص المحاصيل الزراعية بنسبة 10 وأن غابات أندونيسيا قد تختفي خلال عقد من الزمن. وفي أوروبا تسببت الفيضانات العنيفة في أضرار اقتصادية كبيرة وحصدت معها عددا لا يستهان به من الأرواح. وأمام هذه التغييرات الكارثية في المناخ لم يعد «بروتوكول» كيوتو المبرم عام 1997 في الاطار الذي دعت إليه الأممالمتحدة لبحث التغييرات المناخية ملزما للولايات المتحدةالأمريكية أكبر دولة مستهلكة للطاقة متجاهلة أن الطبيعة حين تغضب لا تفرق بين القوي والضعيف أو بين الغني والفقير. فهل تستجيب حكومات الدول الصناعية لنداءات الشعوب حول إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب ومساعدة الفقراء في معركتهم ضد قساوة الخصاصة والحاجة وتعاسة الجهل ودعم الباحثين في معالجة جحيم الأمراض الخبيثة وإعانة الجماهيرعلى دحر شرّ الحقد؟