الحكومة الاسرائيلية تستعد إلى إعادة احتلال الضفة الغربية وغزّة. وزير الأمن الداخلي بالكيان الصهيوني يستبيح الأقصى والمسلمون يستعدون لاستقبال شهر رمضان. الجامعة العربية تشجب وتندّد ولكنها لا تفعّل بندا أساسيا، وددنا نحن العرب أن لا يكون مضمّنا في نصّ الميثاق: اتفاقية الدفاع العربي المشترك. قوات الاحتلال الاسرائيلي تعتدي على أبناء الشعب الفلسطيني بكلّ فئاته. صور تداهمنا كلّ ليلة بل كلّ دقيقة في بيوتنا تكشف عورتنا التي أخفينا يوم سقطت فلسطين في 1948 . كلّه مشهد مفضوح بلا أقنعة ولا قفّاز، انه مشهد يسكن قلب الأمة العربية لا غير. لكأن القدر كما التاريخ كما الضمير العالمي، لم يكفهم سقوط بغداد بتلك الفظاعة، ولم يكف هؤلاء تلك الدماء الحية التي تتقاطر وتهدر يوميا في فلسطين، حتى تنضاف إلى عذاباتا نحن العرب هذه الصور والمشاهد والحقائق التي تكشف عجزنا بصوت عال تماما كما ترفع النقاب عن مستوى الغطرسة والقوة اللتان يتلحّف بهما الاحتلال. أمام هكذا مشهد لابدّ من التساؤل: إلى أين نحن العرب ذاهبون؟ ما الذي جعل منّا أمّة تثير العجب بعد أن تثير أكثر من سؤال حول واقعها المرير؟ أيمكن أن يكون العيب فينا ونحن نواصل الحديث عن عيب في زماننا؟ لماذا تنهض أمم بعد كبوة، ولم ننهض بعد كلّ الكبوات والعثرات التي عرفنا طوال قرون؟ ماذا يريد منّا الطامعون والناهبون أولئك الذين يزيدون من حجم نكبتنا؟ هذا جزء من أسئلة الحيرة التي تنتاب الواحد منّآ كلّما تفحّص مشهدا من المشاهد التي تحيق بالأمة... في العراق يعبث الاحتلال الأمريكي ويسمّي نفسه احتلالا دون خشية من أحد، ولا تجد صوتا عربيا واحدا موحدا يدعو إلى تفعيل النصوص في ميثاق الأممالمتحدة كما في ميثاق الجامعة العربية كما في اتفاقيات جنيف الأربعة حتى يتحمل الاحتلال تبعات احتلاله للأرض والشعب في العراق. في فلسطين يرى المتابع بأم العين كيف يصلب الحق وتغتال الحقيقة، بحيث يصبح المحتل مجرم الحرب في موقع المدافع عن النفس في حين يتحول المقاوم الذي شرّعت له الأديان كما القوانين الوضعية في كلّ الدنيا تحرير أرضه من الغزاة وبكلّ الوسائل والسبل، يتحول هذا المناضل إلى ارهابي. في العراق كما في فلسطين، يبدأ الأعداء القصّة من النقطة التي يشتهون... من النقطة التي تخدم مصالحهم، فلا ترى عاتبا عربيا من أصدقائهم أو من أولئك العرب الذين يصادقونهم «الأعداء» خشية بطشهم ولا ترى «المناضل» الرافض للسائد يرفع صوته أو قلمه ليفضح تلك الممارسات. ممارسات ظنت الانسانية أنها تخلصت منها يوم سقط امبراطور روما الأخير ويوم تحدّث المتحدثون بعد الحرب العالمية الثانية باسم شعوب العالم، فأوهموا العرب قبل غيرهم، ان ميثاق الأممالمتحدة يدفع عن شعوب الأرض قاطبة كلّ المحاذير وكل الأخطار. لم تعد فلسفة حقوق الانسان كافية لتكون بلسما لجروح تنزف هنا وهناك باسم شتى أنواع الكذب والنفاق. في ما ينعت بمثلث السنة، يعتقل الجيش الأمريكي المحتل نساء عراقيات انتقاما من أزواجهن، فما الذي تركه الأمريكيون في العراق حتى يكون موضوع جدل ونقاش بيننا؟ لا شيء بالتأكيد، بعد أن أتوا مثل هذه الأفعال. في مدريد حيث يعقد مؤتمر المانحين لاعادة اعمار العراق، لا أحد في العالم يصدّق أن العرب الذين يحتكمون على أكثر من نصف الثروة البترولية في العالم، ولا يتحكمون فيها، تحولوا في أول زلزال وأول منعطف إلى أمة تستجدي من أشعل النفط العربي لهم أضواءهم ومن حققت لهم الثروات العربية نهضتهم الصناعية والتكنولوجية. هل هناك سخرية قدر أكثر من هذه السخرية التي تحدث في مدريد للعراق بعد أن حدثت في عواصم غربية أخرى من أجل فلسطين المنكوبة؟ لا أحد في العالم اليوم، سواء منه المتقدم أو ذاك الذي تأخر لبرهة من الزمن، قادر على استيعاب هذه الحقائق التي تؤثث وللأسف المشهد العربي فقط. المهزلة تتواصل، لتنبئنا أن مؤتمر مدريد لاعمار العراق الآن كما مؤتمر مدريد للسلام منذ احدى عشرة سنة، يصرّ اثناهما على طبع ذاكرتنا وهزّ وجداننا، ليذكّرنا الآخر بنكباتنا المتواصلة منذ سقوط غرناطة ومنذ حطّم ملوك الطوائف بذرة العقل العربي عندما عصفوا بابن رشد. ما الذي جعل منا أمة تسير للهوان بأقدامها، على عكس الأمم الأخرى الموازية لنا والمشابهة لنا في الناحية العلمية وفي المستوى الحضاري إن كانت للحضارة مستويات؟ ليس عسيرا وضع مشهد ماليزيا بالتوازي مع مشهد الأمة مجتمعة أو دولة دولة ان شئنا، ليأتينا الجواب في قسوة وتصدمنا الحقيقة بلا شفقة. في هذا البلد الإسلامي الآسيوي، ماليزيا، لا تجد المرء فيها يتباهى بأعلى بناية في العالم، فهذه عندهم نقطة جامعة وتمثّل نقطة وصول صورية، لأن ماليزيا تعني اليوم للماليزيين كما للعالم، نمرا من نمور آسيا، نمرا من تلك الدول الصاعدة التي يقاس مستواها الحضاري وبصمتها الاقتصادية بحجم النموّ فيها وبحجم التقدم العلمي والتكنولوجي فيها. هذا هو الفرق بيننا وبين أمم كالمكسيك والبرازيل وماليزيا وغيرها، التباهي بما تنجز وتصنع وبما تساهم به في المشهد العالمي سواء كان التجاري أم الثقافي أو التكنولوجي. المفارقة في هذا الباب هو أن وقود التقدّم التكنولوجي والتقني في العالم المتقدم، والقادم إليه من الأراضي العربية، ونقصد «البترول» و»الغاز الطبيعي» كلاهما مستثنيان من اتفاقية «الغات» وبالتالي لا وجود لهما كسلعة تبادلية تجارية تدخل منظومة الهيكل التجاري العالمي الذي خلق اتفاقية «الغات». ولتأكيد هذا الأمر سياسيا ينظّر الأمريكيون الآن، ولا أحد قادر على معارضتهم، إلى أن هذا النفط الثروة، هو مخزون انساني وموروث انساني وجد صدفة في أراض عربية.. بل إنه وجد في صحارى العرب لكي يستغله الأمريكيون والغرب عموما. هذا هو الفرق بيننا وبينهم، تلك الشعوب التي تنتمي إلى حضارات قريبة منّا ويضاهي تقدمها تقدمنا في فترة من الزمن. صحيح أن هذه الأمم لم تعرف معنى الاستعمار الاستيطاني، ولم تعرف يوما هجوما عشوائيا منظما، قوامه بشر مشتتون ووسيلتهم لافتكاك الأرض وتهجير أهلها أسطورة لا تستقيم علما ولا علمانية، ولكن شمّاعة المؤامرة ليست هي الوقود الأساسي لمصيرنا الذي نعرف. فإلى حدود انهيار الاتحاد السوفياتي وأفول الثنائية القطبية، كان العرب في موقع ردّ الفعل. فهم يردون الفعل على فعل اسرائيلي، فيخسرون الأرض ويفرطون في احدى الثوابت، أما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي لم يجرؤ العرب على الاتحاد حول موقف واحد يعترضون به طوفان صبغ المقاومة بالارهاب، فقد زاد العرب من تقوقعهم، وأصبحوا في دائرة اللاّفعل وبالتالي لا يردّون الفعل أصلا. بالتأكيد هناك أكثر من عيب فينا، والدليل ان التشتت العربي الآن لم يعد يقتصر على الأنظمة أو على الدول العربية، بل أصاب «المثقف» العربي، الذي بدا وكأنه في حالة شماتة تجاه نفسه، وتجاه حاله الذي يعكسه مشهد أمته. اليوم يعربد المحتلون بلا منازع ويتطاول السياسيون والمنظرون الغربيون على الجميع ساسة ومثقفين، وليس هناك باحث واحد قادر على أكثر من الكلام وليس التحليل.. كلام يحمل في ثناياه شتائم و»عصبية» لا تؤثر جميعها في كاتب واحد من الكتاب المنظرين لمزيد صفع الأمة. لهذا كله ينهض الجميع ونزداد نحن كبوة... ويعارض ويتهجّم وينقذ من ليس له بنا علاقة، الاحتلال الأمريكي في العراق والاحتلال الاسرائيلي في فلسطين، في حين يصمت صاحب القضية، وفي أقصى الحالات يذرف دمعتين على صبيّ فلسطيني نزلت منه الدماء كما يسكب البنزين، أو على ثكلى واجهته من شاشة التلفاز بالقول: حسبي اللّه ونعم الوكيل فيكم... أشقائي الأعزاء...