يوم الثلاثاء 8 جوان 2010 انطلق القضاء الفرنسي في محاكمة وسيط البورصة جيروم كيرفيال المُتّهم بتكبيد أحد البنوك خسارة تجاوزت الخمسة مليارات أورو. هذه المحاكمة جديرة بوقفة متأنّية، نظرًا لامتلاكها كلّ مواصفات المحاكمات التضليليّة التي برع فيها رأس المال كلّما أراد التمويه ولفت الأنظار بعيدًا عن جوهر المسألة! يبدو جيروم كيرفيال الشاب الثلاثينيّ، ابن جيله فعلا.. فهو خرّيج الرقميّات والسيبر فضاء والتفاعل الفوريّ والخلط بين الواقع الملموس والابحار في العالم الافتراضيّ. وقد تمّ تكوينه أفضل تكوين ليكون تلميذًا من أنجب تلاميذ هذه المدرسة الاقتصاديّة الماليّة الجديدة، التي تمّحي فيها الحدود بين المال والاقتصاد تمامًا كما تمّحي الحدود بين البيع والشراء والمضاربة والعمليّات النظيفة والعمليات الوهميّة.. يُطلب من وسيط البورصة في سياق هذه المنظومة أن يكون وحشًا كاسرًا.. حتى أصبحنا أمام أكثر من وجهِ شبهٍ بين قاعة البورصة والمسرح الروماني حيث كان يراق دم العبيد والوحوش.. وأمام أكثر من وجه شبهٍ بين الوسيط (الترايدر كما يقول المختصّون) والغلادياتور أو المقاتل الرومانيّ الذي يتعلّم منذ اللحظة الأولى أنّه امّا قاتل وامّا قتيل، وأنّه مُطالب بالنتيجة مهما كانت الوسيلة، وأنّ مهنته لا تعترف بايتيقا غير ايتيقا الربح، وأنّ الضربات كلّها مسموح بها وتحديدًا الضربات تحت الحزام، المهمّ تحقيق المهمّة: أي اكساب الشركة أو البنك أو المؤسّسة أكثر أرباح ممكنة.. لا أحد يصدق أو يكذب في البورصة.. فاللعبة هنا لا علاقة لها بشروط الصدق أو الكذب.. واللاعبون كلّهم محترفون بالدرجة نفسها، ويمارسون لعبتهم على مرأى ومسمع وبصوت عال وكلّ شيء يُقصف صوتًا وصورة أمام الجميع.. أي أمام كتيبة من المقاتلين يرتكبون الشيء نفسه في المكان نفسه بالوسائل نفسها وعن طريق اللغة نفسها ولا يفصل بين أحدهم والآخر أكثر من سنتيمترات.. وهو ما ألمح اليه كيرفيال في اليوم الأوّل من محاكمته حين قال لقضاته: «لا شيء يخفى على أحد في قاعة البورصة.. كلّ شيء يتمّ في العلن.. والدليل على ذلك أنّ رؤساءنا في العمل لا يمنحوننا مكافأة الاّ على أساس ما نجلبه لهم من أرباح.. وهي أرباح لا طريق لها الاّ المضاربة بما أنّه ليس لدينا أيّ نشاط آخر نمارسه في ذلك المكان.. ». جيروم كيرفيال اذنْ ليس سوى تلميذ نجيب قام بما هو مطلوب منه أفضل قيام.. أو لنقل انّه في أسوإ الأحوال عبدٌ مأمور اجتهد في تنفيذ مهمّته. وليس من الصعب أن نرى فيه وجهًا من وجوه الضحيّة. وموضوعه يهمّنا جميعًا، لأنّ أصابع هذه المنظومة الاقتصاديّة الماليّة لا حدود لها ولا سقف.. واذا لم يتمّ استخلاص الدروس الحقيقيّة من الأزمة الماليّة العالميّة الأخيرة، فليس مستبعدًا أن نرى غدًا عشرات من جيروم كيرفيال يقفون في القفص نفسه، في نوع من النفاق القضائيّ المكشوف، بينما الجريمة التي يحاكمون بسببها تتواصل في اللحظة نفسها، بالطريقة نفسها، في كلّ أسواق المُضاربة في العالم. هي اذن ليست محاكمة جيروم كيرفيال بل محاكمة نظام ماليّ اقتصاديّ عالميّ لا يريد أن يعترف بأخطائه ولا يريد أن يصلح أيّ شيء من عيوبه.. وهي محاكمة نظام ماليّ اقتصاديّ عالميّ يطلب من جنوده أن يقاتلوا من أجله بكلّ وسيلة ومهما كان الثمن، كي يكون هو الرابح الوحيد في حالة الربح، وكي يكون جنوده الخاسرين الوحيدين في حالة الخسارة.. فلماذا يقف كبشُ الفداء وحده في قفص الاتّهام؟ وهل نشهد بعد أيّام حركة دراماتيكيّة يُدعى بموجبها قادة السوسيتيه جنرال الى الوقوف في نفس القفص؟ ولماذا يُحاكَم الضحيّةُ وفي أفضل الأحوال السلاحُ أو حاملُه، ليظلّ الجلاّد أو القاتل الحقيقيّ يواصل السياسة نفسها بعيدًا عن كلّ حساب وعقاب، بعيدًا حتى عن أيّ اصلاح أو تعديل؟