تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجهة نظر إشتراكيّة حول الأزمة الرأسماليّة (4/6)
على هامش الأزمة الماليّة العالميّة: عبد الله بن سعد
نشر في الشعب يوم 31 - 01 - 2009


.1 حلقة الأزمة الرأسماليّة وأطوارها
لاحظنا فيما سبق بأنّ الأزمات هي ظاهرة ملازمة للرأسماليّة ومن النّاحية النّظريّة فإنّ المرحلة التي تمتدّ من بداية أزمة حتّى بداية أزمة أخرى تسمّى الحلقة الإقتصاديّة ويبيّن نيكيتين على أنّ هذه الحلقة تشتمل على أربعة أطوار وهي الأزمة فالرّكود والإنتعاش ثمّ النّهوض.
الأزمة : هي الطّور الأساسي من الحلقة المذكورة. وهي تتّسم ، تاريخيّا وقبل ظهور الأزمة الحاليّة ، بفيض إنتاج البضائع الذي ينجرّ عنه هبوط الأسعار بسرعة وكثرة الإفلاسات وإستشراء البطالة وهبوط الأجور وتقلّص التّجارة الداخليّة والخارجيّة.
وفي هذا الطّور يتجلّى التّناقض ، داخل النّظام الرأسمالي ، بين نموّ الإمكانيّات الإنتاجيّة والإنخفاض في الطّلب حيث يصطدم المستوى العالي الذي بلغه تطوّر القوى المنتجة بالإطار الضيّق لعلاقات الإنتاج.
إلاّ أنّ رأس المال ، وتفاديا للسقوط الحتمي ، يتدخّل للتقليص من حدّة الأزمة ولو بالعنف لتقليص كمّيات الإنتاج حتّى مستوى الطّلب. وهكذا يتحقّق الإنتقال من طور الأزمة إلى طور الرّكود.
الرّكود : هو الحالة التي تكفّ فيها الأزمة عن التعمّق عبر قيام رأس المال بتدمير جزئي للبضائع من ناحية وبيع ما تبقّى بأسعار منخفضة وهو ما يعرف بالتّدخّل العنيف لرأس المال (يقع إتلاف البضائع في الوقت الذي يموت فيه الملايين جوعا). وهكذا يظلّ الإنتاج الرأسمالي في حالة ركود حتّى تدفع المزاحمة في سبيل مصادر الموارد الأوليّة الرأسماليين إلى إعادة تجديد الرأسمال الثّابت عبر التحسينات التقنية لخفض كلفة الإنتاج وجعلها مربحّة حتّى مع الأسعار المنخفضة التي تسبّبت بها الأزمة في بدايتها. وهذا هو ما يشجّع نموّ الإنتاج وبالتّالي يخلق المقدّمات الضّروريّة للإنتقال إلى الطور التّالي من الحلقة أي الإنتعاش.
الإنتعاش : تواصل المؤسّسات التي صمدت خلال الأزمة تجديد الرأسمال الثّابت وتحسين الإنتاج وتوزيعه ليقترب حجمه من مستواه الذي بلغه قبل بداية الأزمة. وهكذا تنتعش التّجارة من جديد وترتفع أسعار البضائع وتزداد الأرباح.
وحين يتجاوز الإنتاج الرأسمالي حدّه الإقصى الذي بلغه قبل الأزمة ينتقل إلى الطور الأخير من الحلقة وهو طور النّهوض.
النّهوض : يتجلّى خلال هذا الطّور ميل رأس المال إلى إنماء الإنتاج إلى حدّه الأقصى. فمن جديد يعمل الرأسماليّون على توسيع مؤسّساتهم حرصا على تجاوز بعضهم البعض وسعي بعضهم إلى إحتكار بضاعة ما أو نشاط ما. فيقع فتح ورشات جديدة وتوسيع النّشاط وتسريع وتيرة الإنتاج والرّفع من الإنتاجيّة وهو ما يؤدّي إلى إرتفاع الإنتاج مقابل الطّلب.
وهكذا يعود الإنتاج إلى تسجيل فيض جديد ولو بصورة غير مرئيّة ثمّ تتكدّس الفوائض من البضائع وتتراكم بمرور الوقت. وخلال هذه المرحلة العليا من النّهوض تصبح السّوق زاخرة ببضائع لا تجد لها طلبا فتنخفض الأسعار وتنفجر الأزمة من جديد.
وهكذا تتجدّد الحلقة كلّها. علما وأنّ هذا الشكل الحلقي من تطوّر الإنتاج الرأسمالي هو نتيجة التناقض المتفاقم بإستمرار بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وهو يبيّن أنّ الرأسماليّة تضع بنفسها الحواجز في وجه تطوّرها وهي بالتّالي تحمل بذرة فنائها من الدّاخل. لكنّه يجدر التذكير بأنّه تحدث في البلدان الرأسماليّة ، إلى جانب الأزمات الصّناعيّة ، أزمات زراعيّة أي أزمات من فيض إنتاج المنتوجات الزّراعيّة. وتتّسم الأزمات الزّراعيّة عادة بطابعها الطّويل نظرا لأنّ الزّراعة قطاع متأخّر قياسا بالصّناعة. فإحتكار الملكيّة الخاصّة للأرض يعيق تدفّق الرّساميل بحرّية الأمر الذي يعيق تجديد الرأسمال الأساسي في الزّراعة بصورة مكثّفة ويعرقل الخروج من الأزمة الزّراعيّة عند حدوثها. إضافة إلى ذلك يسعى صغار الفلاّحين ، أثناء الأزمة ، إلى الإحتفاظ بجميع الوسائل بحجم الإنتاج السّابق لكي يبقوا في الأرض الأمر الذي يزيد أكثر من ذي قبل فيض الإنتاج الزّراعي ويعمّق بالتّالي الأزمة. وهكذا تقع أعباء الأزمات الزّراعيّة على كاهل الفلاّحين الفقراء الذين يصيبهم اللإفلاس والخراب.
هذا هو الإطار النّظري للأزمة الرأسماليّة لكنّ الفارق هذه المرّة ، أي في الأزمة الماليّة الحاليّة ، هو أنّ السّبب لا يتعلّق بفائض الإنتاج بل إلى تمركز الرأسمال في الأعمال المصرفيّة. وهذه مسألة أخرى تحدّث عنها لينين بإطناب في مؤلّفه االإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّةب حيث يقول :»إنّها لكذبة أقاويل المفكّرين البرجوازيين التي تزعم أنّ الإحتكار يعني تطوّر الإقتصاد الرأسمالي تطوّرا مبرمجا. فالإحتكار الذي يولد من حرّية المزاحمة لا يقضي عليها بل يقوم إلى جانبها. وفي ظلّ سيادة الإحتكارات تبلغ المزاحمة منتهى الضّراوة والسّلب. فلسحق الخصم يلجؤون حقّا وفعلا إلى الإحتيالات والدّسائس الماليّة والرشوة والتهديد والمساومة والعنف السّافر. إنّ الإمبرياليّة لا تستطيع القضاء على المزاحمة لأنّ هذا الجمع على وجه الضبط بين مبدأين متناقضين ، المزاحمة والإحتكار ، جوهري بالنسبة للإمبرياليّة». وهذا هو ما حصل بالضّبط خلال الأزمة الماليّة الحاليّة حيث تزاحمت بنوك الإستثمار مع بنوك التسليف مع شركات التوظيف المالي في السّوق العقّاريّة من ناحية والبورصة من ناحية أخرى وهو ما أدّى إلى إفلاس بعضها.
ونريد الوقوف عند هذه النقطة لنفنّد ما يزعمه بعض المنظّرين الليبراليين الذين ، ومن منطلق حقدهم على الماركسيّة والماركسيين ، يؤكّدون على أنّ الأزمة الماليّة الحاليّة لم تستشرفها الدّراسات الماركسيّة التي لم تتحدّث في السّابق إلاّ على الأزمات التي تنتج عن فائض الإنتاج. إنّنا نقول بأنّ هذه الإتّهامات لا يمكن أن تصدر إلاّ عن جاهل أو كذّاب. فالعظيمان ماركس ولينين وفي مؤلّفيهما الكبيرين ارأس المالب وبالإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّةب تحدّثا بإطناب عن الأزمات بل الدّمار الذي يمكن ان يحدثه تمركز الرأسمال والإحتكارات المصرفيّة على إقتصاديّات البلدان.
فقد أكّد لينين بأنّ المصرف كان في البدأ مجرّد وسيط للمدفوعات ومع تطوّر الرأسماليّة أخذ نشاطه التسليفي في الإتساع. وشرع المصرف ياخذ رأسمال الراسماليين ممن لا يستطيعون إستخدامه في فترة معيّنة ويسلّف منه أولئك المحتاجين فورا للمال. كما أنّ الصّراع الضّاري بين المصارف يؤول إلى إمتصاص المصارف الصّغيرة من جانب الكبيرة. فالمصارف الكبيرة تعقد بينها الإتفاقات وعلى هذا النحو تظهر الإحتكارات المصرفية وتخضع لنفسها المصارف الصّغيرة وصناديق التوظيف المالي ومؤسسات التسليف. وبسبب هذا التمركز شرعت البنوك تمارس سلطة هائلة على الإقتصاد برمّته. فالبنوك الكبرى إذ تحصر عندها حسابات الرأسماليين الجارية تستطيع أن تعرف حالة أعمالهم وتبسط رقابتها عليهم وتخضع لنفسها في آخر الأمر الرأسماليين الصّناعيين وتوجّه نشاطهم وذلك بتشديد أو تسهيل شروط التسليف. وهكذا يتحوّل البنك من مجرّد وسيط في عمليّات الدفع إلى مركز مالي جبّار.
كما تمارس الطغمة الماليّة سيطرتها في الميدان الإقتصادي أيضا بواسطة ما يسمّى نظام المشاركة وقوامه أنّ مالي كبير أوفريقا من الماليين يشرف بواسطة ما يسمّى الربطة الرّقابيّة من الأسهم وغيرها من الوسائل على الشركة المساهمة الرئيسية التي هي االشركة الأمب فهذه تشتري أسهما من شركات مساهمة أخرى ومتى ملكت الرّبطات الرقابيّة من الأسهم بسطت سيطرتها على الشركة الفرعيّة التابعة لها االشركة البنتا وهذه بدورها تسيطر على االشركة الحفيدةب وهكذا دواليك. ويمكن تشبيه هذا النّظام بهرم متعدّد الطّوابق يسيطر عليه أكبر طغاة عالم المال.
ولا تقف سيطرة الطغمة الماليّة على الجانب الإقتصادي بل تتعدّاه إلى الجانب السّياسي حيث تندمج الإحتكارات الماليّة في جهاز الدولة أو يصبح هناك حلف بين الدولة والإحتكارات وتنشأ بذلك رأسماليّة الدولة الإحتكاريّة وتتطوّر. وليس نادرا بالمرّة أن يحصل أصحاب الإحتكارات الكبرى على مناصب سياسيّة أو العكس أي أن يحصل السّياسيّون وكبار موظّفي الدولة على حصص هامّة من الأسهم في هذا الإحتكار أو ذاك. وقد قال لينين :»اليوم وزير ، غدا مصرفي ، اليوم مصرفي ، غدا وزير ، هكذا هو الحال حيث يسود الرأسمال» .
وهكذا فإنّ الإمبرياليّة ليست الرأسماليّة الإحتكاريّة فحسب بل هي ايضا الرأسماليّة الطفيليّة المتعفّنة التي نعيش أشرس فتراتها في ظلّ العولمة الليبراليّة الحاليّة. يقول لينين :»إنّ الإحتكارات والطغمة الماليّة والنّزوع على السيطرة بدلا من النّزوع على الحريّة وإستثمار عدد متزايد من الأمم الصّغيرة أو الضّعيفة من قبل قبضة صغيرة من الأمم الغنيّة أو القويّة كلّ ذلك قد خلق السّمات المميّزة للإمبرياليّة التي تحمل على وصفها بأنّها الرأسماليّة الطفيليّة أو المتقيّحة».
فهل هناك ما هو أبلغ ممّا قاله لينين حول دور الطغمة الماليّة وما يمكن أن تسبّبه من مآسي وأزمات ؟ وهل ما حصل من أزمة ماليّة خلال الأشهر الأخيرة لا يؤكّد القراءة الماركسيّة لصيرورة التطوّر الرأسمالي ؟ إنّ من ينكر ذلك لا يمكن أن يكون إلاّ فوكوياما الكذّاب وأمثاله.
.2 أسباب الأزمة
نعود الآن إلى أسباب الأزمة حيث سبق وأن أكّدنا بأنّ العولمة الليبراليّة الشّرسة تحمل في جوفها تناقضات الرأسماليّة وأزمتها لكن بشكل أكثر حدّة ممّا عرفته في السّابق.
ومن هذا المنطلق فإنّ أهمّ ملاحظة يمكن أن نسوقها عند الحديث عن الأزمة الحاليّة أنّه خلافا للأزمات الماليّة السّابقة التي حدثت في العصر الحديث ، فإنّ الأزمة الحاليّة ضربت قلب النّظام الرأسمالي في الولايات المتحدة الأمريكيّة ثمّ إنتشرت في باقي الجسم الرأسمالي. الملاحظة الثانية التي يمكن أن نسوقها فهي أنّ الأزمة ليست لها علاقة بالإنتاج الصّناعي (فائض الإنتاج) مثلما كان يحصل في السّابق بل هي ناتجة عن طبيعة النّظام الرأسمالي في ظلّ العولمة الليبراليّة الشّرسة والمتوحّشة الذي تلعب فيه المضاربة دورا أساسيّا في جني الأرباح وهو ما أدّى ببعض الإقتصاديين بإطلاق إسم اإقتصاد الكازينوب على ذلك. أمّا الملاحظة الثّالثة والأخيرة فهي أنّ الأزمة الحاليّة هي نتاج لتراكم كمّي من الأزمات والظواهر التي سادت داخل المجتمع الأمريكي بعد إنفلات الرأسماليّة من تحت عقّالها ويمكن أن نذكر منها :
* الدّيون الخارجيّة الأمريكيّة (ديون الدولة) مرّت من 3 تريليون دولار سنة 1990 إلى 70 تريليون دولار سنة 2007
* الدّيون الدّاخليّة الأمريكيّة (ديون العائلات) مرّت من 680 مليار دولار سنة 1974 إلى 14 تريليون دولار سنة 2007
* تضخّم الإستهلاكي الأمريكي بشكل لم يسبق له مثيل في التّاريخ فالمستهلكون الأمريكيّون ينفقون 800 مليار دولار سنويّا أكثر ممّا ينتجون
* إفلاس 7000 شركة بين سنتي 2007 و2008 فقط
* أتساع حجم القطاع المالي حيث حقّقت 500 شركة فقط من جملة 36 000 شركة مدرجة على مؤشّر استاندار آند بورسب 30 % من الأرباح الجمليّة سنة 2007 وهو ما يعني قيامها بعمليّات مضاربة. لكنّ السيطرة التي فرضها الرأس مال المالي الأمريكي على أسواق المال والبورصات العالميّة وتنفّذ المضاربين الأمريكيين جعلت المال المتداول في الأسواق العالميّة يبلغ حجمه حوالي 3 تريليون دولار أي ما يفوق مخزون كلّ البنوك العالميّة مجتمعة من ناحية كما يفوق بكثير أيضا حجم التّجارة العالميّة طيلة سنة كاملة من ناحية أخرى. وهذا لا يعني إلاّ شيء واحد : مضاربة خارج المراقبة (بعد تفكيك كلّ هياكل المراقبة سنة 1999 لا تؤدّي إلاّ إلى الكارثة وهو ما حصل فعلا.
إنّ الأزمة التي نعيشها الآن هي نتيجة مادّية لقوانين حركة تراكم رأس المال ومحصول وسطها أي السّوق.
وهكذا يتّضح بأنّ تفاقم التناقضات المستعصية الحلّ التي تحدّث عنها كارل ماركس في ارأس المالب هي التي تقف وراء هذه الأزمة وما سبقها من أزمات وليست مجرّد أخطاء قام بها هذا المسؤول البنكي أو ذاك أو هي تتعلّق بسوء الإدارة وغياب الدقّة والشّفافيّة في تعاملات السوق الماليّة (حتّى وإن كان ذلك صحيحا) كما يروّج لذلك المدافعون عن النّظام الرأسمالي. فهم بذلك لم ينتقدوا إلاّ الظّاهرة بينما غضّوا النّظر عن نقد رأس المال وقوانين حركة تراكمه لحجب حقيقة ما يجري وإخفائها عن أنظار الطبقة العاملة خالقة الثّروات. لذلك فإنّنا نرى بانّه من واجب المثقّفين والأكادميين الثوريين أن يقوموا بهذه المهمّة أي فضح الحقائق التي تودّ البرجوازيّة ، عبر المثقّفين والأكادميين البرجوازيين ، إخفاءها أو حتّى تزويرها. فالمثقّف أو الأكاديمي الثوري هو الذي ينحاز إلى الطبقة العاملة ليدافع عن مصالحها وأهدافها وأحلامها ، أمّا المثقّف أو الأكاديمي البرجوازي فهو الذي ينحاز إلى الطبقة/الطبقات الحاكمة ليدافع عن مخطّطاتها وبرامجها وأهدافها.
2,.1 خلق القاعدة المادّية للأزمة
إذا أردنا العودة إلى أسباب الأزمة الحاليّة فإنّه يجدر بنا العودة إلى سنة 1971 وليس إلى 11 سبتمبر 2001 أو أزمة الرهن العقاري سنة 2007 مثلما يتصوّر بعض قصيري النّظر. ولكي نكون محدّدين نقول بأنّه هناك ثلاث تواريخ مفصليّة هي التي خلقت الأسباب المادّية للأزمة :
* أوّلا سنة 1971 : هي السّنة التي قرّرت فيها أمريكا الإنسحاب من إتفاقيّة بريتون وودز الموقّعة سنة 1946 والتي قرّرت ربط العملات الوطنيّة بالذّهب. وقد برّرت أمريكا خطوتها تلك ، التي لم يكن ينتظرها أحد ، بأنّ إنتاجها الهائل من البضائع المختلفة هو الضّامن الحقيقي لعملتها وليس الذّهب. ومنذ ذلك اليوم أغرقت أمريكا الأسواق العالميّة بالدولار الذي كان المدخل الأساسي لسيطرتها السّياسيّة على العالم (وعندما نقول السّياسيّة فنحن نقصد أيضا الإقتصاديّة ، ألم يقل لينين معلّم البروليتاريا بأنّ السّياسة هي تكثيف للإقتصاد).
* ثانيا سنة 1981 : في بداية الثّمانينات طبّق رونالد ريغن االرّئيس الكوبويب سياساته العنيفة على الجبهات الداخليّة والخارجيّة وفي الوقت الذي كانت فيه مارغريت تاتشر في أنقلترا تقمع الإضراب البطولي الذي خاضه عمّال مناجم الفحم لأكثر من 6 أشهر ، كان ريغن يقمع إضراب مراقبي الطّيران (Flight controllers) ضمن خطّة ممنهجة لضرب العمل النّقابي بصفة كلّية من أجل تمرير ما سمّي ب امرونة التشغيلب هذا المصطلح الذي ظهر في تلك الحقبة التي أرّخت لظهور ما عرف بمرحة االلّيبراليّة الجديدة.
لكن مقابل الهجوم على العمّال والنّقابات عمد ريغن إلى فرش البسط تحت أقدام رأس المال إذ قام سنة 1981 بتفكيك قوانين الرّقابة على أسواق رأس المال التي وقع سنّها سنة 1933 بعد حصول أزمة .1929 وحريّ بنا أن نعود إلى هذه القوانين حتّى نفهم السّياق الذي وجدت فيه. فالمعروف بأنّ أزمة سنة 1929 تسبّبت فيها أيضا بورصة اوول ستريتا نتيجة قيام البنوك الكبيرة مثل بنك مورقان Morgan و Chase National بالتلاعب بالأسهم والمضاربة بها ممّا مكّنهم من الحصول على أرباح طائلة في وقت وجيز جدّا على حساب المستثمرين العاديين (التاريخ يعيد نفسه).
لذلك قام الرّئيس فرانكلين روزفلت بعمليّة إصلاح شاملة للسوق الماليّة سنة 1933 إذ أنشأ لجنة مراقبة البورصة (SEC) لوضع حدّ للخروقات المتعلّقة بالتّداول بالأسهم ، كما سنّ قانونا خاصّا يفصل بين نشاطات البنوك وصناديق الإستثمار (قانون Glass Steagall) إضافة إلى ما سنّه أيضا من قوانين بغرض الرّقابة على الإقتصاد ومنع الشّركات الكبرى من وضع يدها على كلّ المجالات لتفادي ما حصل سنة 1929 (وكالة مراقبة شركات توليد الطّاقة لتحديد الأسعار ، وكالة مراقبة وسائل الإعلام لمنع تمركز هذا النّشاط بأيدي حفنة من أباطرة رأس المال ...) وقد أدّت هذه الإجراءات (التي أسّست لما سمّي ب ادولة الرّفاهب) إلى إنتخاب روزفلت 4 مرّات متتالية 1932 : ، 1936 ، 1940 و.1944
طبعا ردّ فعل أصحاب رؤوس الأموال كان سلبيّا جدّا مثلما أكّد ذلك قاضي المحكمة العليا الأمريكية في ذلك الوقت افرديناند بيكوراب في الكتاب الذي أصدره سنة 1934 بعنوان اوول ستريت تحت القسمب حيث كتب ما يلي :»تحت سطح الرقابة الحكومية المفروضة على سوق الأوراق المالية ، لا تزال نفس القوى التي خلقت المزايدات والمضاربة في السوق عام 1929 تثبت وجودها وتأثيرها حيث يقولون لنا أنّ هذه الرقابة تخنق البلاد. لقد كانت وول ستريت عدوانيّة تجاه قوانين الرّقابة وهي تتطلّع إلى اليوم الذي ستعيد فيه لنفسها الزّمام». وفعلا أتى ريغن ليحقّق أحلام اباطرة رأس المال بإلغاء كلّ تلك القوانين بجرّة قلم سنة 1981 حيث لم تعد سلطة تنظيم أسواق البورصة تستند إلى قوانين الدولة بل إلى توجيهات قوانين السوق الماليّة الخاضعة تماما لمصالح المضاربين.
* ثالثا سنة 1999 : بعد بعث المنظّمة العالميّة للتّجارة (إحدى آليّات العولمة اللّيبراليّة الشرسة) التي أتت لإتمام العقد الإمبريالي الذي يحيط بعنق الإقتصاد العالمي وقع بعث قانون العصرنة الماليّة سنة 1999 الذي صادق عليه مجلس الشّيوخ الأمريكي ومن بعده الرّئيس كلينتون حيث وقع شطب كلّ ما تبقّى من التقييدات النّظاميّة على المصارف وشركات السمسرة والمستثمرين المؤسّساتيين وشركات التأمين وغيرها من المتدخّلين في المجال المالي وفسح لها المجال واسعا للإستثمار في أعمال بعضها البعض وكذلك دمج عمليّاتها الماليّة وهو ما خلق عمليّات ماليّة لم يسبق أن وقع تطبيقها أو التنظير لها من طرف منظّري الرأسماليّة من قبل سنتعرّض لها لاحقا. ولقد كان ذلك القانون المتعلّق برفع كلّ القيود على السّوق الماليّة جزءا من الأجندة الماليّة الكونيّة التي ترعاها المؤسسات الماليّة العالميّة (صندوق النقد الدولي ، البنك العالمي والمنظّمة العالميّة للتّجارة) عبر لبرلة القطاع البنكي المحلّي وأسواق رؤوس الأموال العالميّة من أجل رفع كلّ القيود وكسر كلّ الحواجز أمام تحرّكات رأس المال المالي.
وقد مكّن ذلك تجمّعات اوول ستريتا الماليّة الكبرى من الإستيلاء على مؤسسات بنكيّة في جميع أنحاء العالم والتغلغل في بنية إقتصاديّات العديد من البلدان التي لم تعد حكوماتها قادرة على منع المؤسّسات الماليّة الكونيّة من السّيطرة على بنوكها ومؤسّساتها الماليّة (إقراض ، تأمين ، إيجار مالي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.