طرحت جمعية القضاة التونسيين في بلاغاتها الصادرة مؤخرا جملة من المسائل المتعلقة بشأن القضاة من بينها تطوير القانون الأساسي للقضاة وتركيبة المجلس الأعلى للقضاء وضمانات القاضي وهي مسائل كانت محل حوار وتشاور ولقاءات بين وزارة العدل وجمعية القضاة التونسيين في مناسبات عديدة نشرت الصحف تفاصيلها آنذاك. وللوقوف بشكل موضوعي على حقيقة ما يقال حول تطوير القانون الأساسي ومبدإ عدم نقلة القاضي إلا برضاه وتركيبة المجلس الأعلى للقضاء، سألت «الشروق» كفاءات قانونية جامعية وقضائية في هذا الشأن فتبين من خلال الدراسات المقارنة أن بعض البلدان تتميز بوجود تركيبة قضائية صرفة في المجالس العليا للقضاء في حين تعتمد بلدان أخرى نظام المزج بين القضاة وغيرهم وتضم تركيبة المجلس الأعلى للقضاء في فرنسا مثلا عددا من القضاة الجالسين وقضاة من النيابة العمومية إلى جانب مستشار بمجلس الدولة وشخصيات وطنية معيّنة من قبل رئيس الجمهورية. والمعلوم ان من خصائص الفصل بين السلط أن كل سلطة يمكن أن تراقب الأخرى وبالتالي فقد لجأت بعض الدول إلى اقرار تمثيلية أساتذة جامعيين وشخصيات قانونية وطنية ليس بالضرورة أن يكونوا قضاة وذلك بهدف استبعاد أي شبهة في معاملة القضاة لبعضهم البعض خصوصا إذا تعلّق الأمر بالتأديب إذ من المعلوم أن المجلس الأعلى للقضاء هو الذي ينظر، عن طريق مجلس التأديب المنبثق عنه، في التجاوزات التي يمكن أن تحصل من القضاة، وإذا كان القضاة عموما وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء خصوصا يمتازون بالحكمة والحياد حتى تجاه زملائهم فإن المواطن يشعر باطمئنان أكثر إذا كان في المجلس الأعلى للقضاء شخصيات قانونية أخرى من غير القضاة تضع حدا لكل تأويل في أن القضاة عندما يتعلق الأمر بأحدهم هم في الآن نفسه من حيث انتمائهم للجهاز القضائي طرف وحكم. حول نقلة القضاة وبخصوص مبدإ عدم نقلة القاضي إلا برضاه فقد أقرته بعض الدول ثم تراجعت عنه نظرا لانعكاساته السلبية سواء على القضاة أنفسهم أو على المتقاضين. إن هذا المبدأ يعني مثلما توحي به تسميته أنه لا يمكن مثلا نقلة قاض من صفاقس إلى سوسة إلا إذا رضي هو بذلك ولذلك فإن هذا المبدأ يكتسي خطورة إذا لم يشتمل خاصة على استثناءات واضحة تبعد كل تأويل يضر بحقوق المتقاضين ويضر في خاتمة المطاف بسمعة القضاء ذاته وهي سمعة ينبغي على التونسيين جميعا قضاة وغير قضاة أن يحرصوا عليها لأنها من مقومات المجتمع المتطور ومن دعائم دولة القانون. ويجمع بعض رجال القانون المختصين في هذا الشأن على أن هذا المبدأ ينعكس سلبا على المتقاضي باعتبار أن القاضي الذي يقضي في مركز عمله عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة تكون له بالضرورة علاقات بمحيطه وهذه العلاقات يمكن أن يوظفها المتقاضون ضد بعضهم البعض على حساب القاضي، وهو ما ينال من سمعة القضاء والقاضي أيضا ويساهم في خرق مبدإ أساسي وشرط جوهري في القضاء ألا وهو الحياد. كما أن لهذا المبدإ تأثيرا سلبيا على توزيع المحاكم على مناطق الجمهورية، فإقرار مبدإ عدم نقلة القاضي يؤدي بالضرورة إلى نقص نوعي وكمي للقضاة في المحاكم داخل الجمهورية التي لا يرغب فيها القضاة المنتصبون في تونس العاصمة والمدن الساحلية وهو ما يخرق مبدأ المساواة أمام القانون الذي ضمنه الدستور. هذا التمركز سيحرم من ناحية أخرى القضاة الشبان من امكانية الانتقال إلى المدن الكبرى والمناطق الساحلية التي ستبقى هكذا حكرا على صنف من القضاة دون آخر. لكن يجب أن يحترم في المقابل الاستقرار العائلي للقاضي بحيث يتاح له، إن رغب في ذلك، البقاء مدة معينة في مركز عمله بما يتناسب مع مقتضيات تعليم أبنائه أو ظروف عمل زوجه أو زوجته. وبقدر ما يجب الحذر من مبدإ عدم نقلة القاضي إلا برضاه بقدر ما يجب الحرص أيضا على أن تتم نقلة القضاة وترقيتهم في إطار الضمانات التي يبررها استقلال السلطة القضائية وحياد القضاء دون الانزلاق إلى نظام ترقية يتم على أساس الأقدمية وحدها لأن ذلك سيقتل كل مجهود إذ ستصبح الكفاءة والمجهود لا معنى لهما مادامت المسألة مسألة دور وجدول أقدمية. لقد حرصت كل الدول على اقرار نظام لترقية القضاة ونقلتهم يرتكز على عناصر ثلاثة وهي الأقدمية والكفاءة العلمية والمجهود المبذول في العمل اليومي ذلك أن اللّه أتانا في العلم رتبا وفي المجهود درجات. إن الأقدمية شرط أساسي لا محالة وهي في القضاء بالذات قرينة على التجربة، لكن الأقدمية يجب أن تقترن أيضا بالكفاءة لأن الكفاءة غير موزعة توزيعا عادلا بين جميع الناس، فالكفاءة تنتج بالعمل والبحث والالتزام بأخلاقيات المهنة القضائية ومنها الحياد في القضايا المعروضة ليس لدى القاضي فقط بل حتى لدى زملائه والتي يمكن أن تعنيه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ذلك أن استبعاد الشبهات من شيم القضاء. إن شعار القضاء هو التوازن وإن كل تطوير للقانون الأساسي للقضاة يجب أن يحترم هذا التوازن: توازنا بين المصلحة الشرعية للقاضي من ناحية والحقوق المحمية للمتقاضي من ناحية أخرى.