بيّنت تجارب البلدان المختلفة التي عانت من الديكتاتورية أن أخطر مدخل يمكن أن يتسرب منه الحكم الفردي» خاصة وحكم الاستبداد عامة هو باب القضاء إذا كان فاقدا لمناعة الاستقلالية. في هذه الحالة تقحمه السلطة الحاكمة إقحاما في القضايا السياسية وتستغله استغلالا فاحشا لتصفية الخصوم وإرساء الحكم الفردي بل يُستعمل القضاء أحيانا لشنّ حرب حقيقية على الأفراد وعلى المجتمع عامة على غرار القانون المتعلق بما يسمى «مكافحة الإرهاب «. ولهذا الاعتبار ولغيره من الاعتبارات ذات الصلة يطرح موضوع القضاء بإلحاح على الساحة الوطنية ولا سيّما في مثل هذه المرحلة الانتقالية التي سيكون لها الأثر البالغ في تحديد مستقبل البلاد على كافة الأصعدة وخاصة في هذا الحقل الحسّاس ويمكن أن نضيف إلى السؤال الوارد بالعنوان سؤالا ثانيا وهو: ما هي المرتبة التي يجب أن يحتلّها القضاء؟ هل تعتبره مرفقا أم هيئة أم سلطة؟ وللجواب عن هذا السؤال الفرعي لابدّ للمرء من أن يحدد اختياره في ضوء المبدأ العام ألا وهو مبدأ تفريق السلط إذ لا يمكن أن نعادل بين المرفق من ناحية والسلطتين التنفيذية والتشريعية من ناحية أخرى ولا يمكن أن ترتقي الهيئة أيّا كان شأنها إلى مرتبة السلطتين الأوليين . لذلك نقدّر أنّ الاختيار الصائب هو أن يعتبر القضاء سلطة تكون على قدم المساواة مع السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وتلك ضمانة من ضمانات الاستقلال والتوازن في آن القضاء باعتباره سلطة في سياق المبدأ الأساسي للجمهورية وهو التفريق بين السّلط والذي يحقق المبادئ الأساسية لكل نظام قضائي حديث I. المفاهيم الأساسية: تهدف نظرية التفريق بين السّلط إلى التفريق بين مختلف الوظائف داخل الدولة بقصد الحد من التحكم والتجاوزات المرتبطة بممارسة السلطة ويضمن هذا المبدأ الذي يعتبر من أهم مبادئ، الجمهورية في تنظيم مؤسساتها الاستقلالية الوظيفية للمحاكم في علاقاتها بمختلف السلطات وتفرق هذه النظرية التقليدية بين وظائف ثلاث في النّظام السياسي 1 - أولاها السلطة التشريعية التي تسنّ القواعد العامة المنظمة للحياة الاجتماعية 2 - وثانيتها السلطة التنفيذية التي تنفذ هذه القواعد 3 - وثالثتها السلطة القضائية التي تتولّى تطبيق هذه القواعد وقد وجدت هذه النظرية تطبيقها في النظم الديمقراطية التي أقرّت بصفة مبدئية استقلال القضاء إزاء بقية السلطات وتمثل العدالة في آن قيمة فلسفية وأخلاقية وممارسة لنشاط معين وكذلك مجموعة من المؤسسات ومن البديهي القول إن العدالة لا تنفصل عن الممارسة القضائية التي تشير في جوهرها إلى الفعل الذي يحقق العدالة وعموما فإن تحقيق العدالة يستند على جملة من القواعد والتنظيمات والممارسات والمهن. ومجموع هذه المعطيات تشمل المؤسسة القضائية بمعنى مختلف الهيئات التي أوكلت إليها السيادة الوطنية سلطة تأويل القانون وتطبيقه وامتياز الفصل بين الناس II. مبادئ النظام القضائي: يرتكز التطام القضائي على جملة من الضمانات والقواعد المرتبطة باعتبار القضاء مؤسسة وفي آن واحد مرفقا عموميا فمن جهة القضاء بصفته مؤسسة عامة تمثل الاستقلالية والحياد مبدئين أساسيين لكل نظام قضائي وذلك من جهة أنهما يضمنان للمتقاضين استناد التصرف القضائي إلى موجبات المساواة بين المتنازعين واعتبارات الاستقلالية بعيدا عن كل ضغط مهما يكن مأتاه فالاستقلالية التي تم إقرارها لفظا سواء بالدستور الواقع إبطاله أو بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية تستمد وجودها لا من مبدأ التفريق بين السّلط فقط بل أيضا من الضمانات الدستورية الأخرى أو من القوانين الأساسية التي تجعل القضاة بمنأى عن الضغوطات والتهديدات التي تؤثر في وظيفتهم القضائية أمّا الحياد فيشير إلى غياب التحيز الذي يجب أن يميز القاضي من جهة أن الاستقلالية تهم بالأساس علاقات القاضي بالسلطات الأخرى وتمثل شرطا ضروريا لكن غير كاف، في حين أنّ الحياد يختص في الغالب بعلاقات القاضي بالمتقاضين ومن أجل ذلك كان من الواجب تكريس الاستقلالية والحياد سواء بالدستور أو بالقوانين الأساسية للقضاة باعتبار أن القضاة مكونون لسلطة مستقلة لا تنتمي إلى صنف الموظفين وغير خاضعين بداهة للسلطة الرئاسية لوزارات الإشراف وغير قابلين للعزل بحكم وظائفهم وزيادة على ذلك فمن الواجب إقرار هيئة دستورية يمكن أن تدعى المجلس الأعلى للقضاء أو مجلس القضاء الأعلى أو مجلس السلطة القضائية بقصد إدارة المسيرة المهنية للقضاة والإشراف على شؤونهم والسهر على تحقيق الضمانات المقررة لهم أمّا من جهة اعتبار القضاء مرفقا عموميا فإنّ العدالة بهذا المعنى تخضع في تنظيمها ووظائفها إلى مبادئ أساسية كبرى، من ذلك: 1- عدد من القواعد المشتركة على سبيل المثال: - مبدأ المساواة أمام القضاء المترتب على المساواة أما القانون - مبدأ المجانية الذي لا يستبعد وجود مصاريف للتقاضي - مبدآ حياد المحاكم المترتب على صفة الحياد المستوجبة من القاضي 2 - عدد من القواعد الخصوصية المرتبطة بالممارسة القضائية على سبيل المثال. - مبدأ التسلسل الذي يهم في آن واحد الحاكم والقضاة - مبدأ التفريق الوظيفي كالتمييز بين القضاة الجالسين وقضاة النيابة العمومية - مبدأ علانية الجلسات والأعمال القضائية تلك باختصار أهمّ المقومات التي يجب أن تتوفر في القضاء حتى ينهض بمهامه النبيلة في حفظ الحقوق وتحقيق العدالة وحتى تكون أركانه قائمة على حروفه كما قال أحدهم : «القاف: قوة الصمود أمام الباطل «والألف: أمانة الحكم، والضاد: ضياء البصيرة، والياء: يسر بجانبه الاحتياج حتّى تمتد يد المساعدة للغير احمد الخصخوصي أستاذ بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس