كنا جميعا ننتظر تفوقا هولندا في هذا المونديال لكن الأصوات التي رشحت هذا المنتخب لبلوغ النهائي لم تكن كثيرة بالنظر إلى أن البرتقالي عادة ما يظهر بمستوى جيد، فهو يعرف كيف يلعب كرة جميلة، لكنه لا يعرف كيف يفوز.. لكن الأمور انقلبت هذه المرة، لتشق الطواحين، طريقها نحو النهائي بثبات وأزاحت بقوة رياحها المتولدة عن الدوران الهائل لفروعها أعتى المنتخبات من هنا لمسنا أن شيئا ما تغير في منتخب ما كان ضحية لنفسه، بسبب هشاشة نفسية قاتلة. سنحاول في هذا الموضوع الوقوف على أسرار التفوق الهولندي إلى حدّ الآن كما توقفنا سابقا على أسرار التفوق الاسباني والألماني. صناعة ناجحة عامان كاملان لم يعرف فيهما المنتخب الهولندي الخسارة مما يعني أن الأوراق الفنية لهذا الفريق قد نضجت وتخلصت من عقدة التعثر في الأمتار الأخيرة وباتت قادرة على منافسة أعتى المنتخبات في العالم هنا يجوز لنا الحديث عن صناعة منتخب من توليفة متجانسة في مخابر هولاندية ذات جودة عالية تطبع الأجيال بمواصفات البطل، فبعد نهاية جيل دافيدس وسيدورف وفان ديرسار وأوفر مارس ونيستلروي وزندان، ومن قبلهم بيكهام وكلويفارت، لم تتوقف الأراضي المنخفضة عن انجاب المواهب، وبعد نهاية ذلك الجيل في 2006، انطلق كأس العالم في ألمانيا حينها دمج العناصر الجديدة مثل روبين وفان بيرسي وفان ديرفارت وفان بومل، ثم تمت اضافة شنايدر وكويت وهايتينغا ودي يونغ لتتكون نواة منتخب قوي اشتد عوده من خلال المشاركة في أورو 2008 لكنه إلى حين ذلك الوقت، كان لا يعرف كيف يتخطى عقبة الكبار في الأمتار الأخيرة رغم كونه يقدم الكرة الأجمل. بداية فك العقدة بداية التخلص من هذه الشوكة في خارطة البرتغالي ونعني بها، الاستمتاع باللعب الهجومي ونسيان الواجب الدفاعي، كان منذ أن اندمج هذا الجيل الجديد في بطولات أوروبية تؤمن كثيرا بالتكتيك، فتكون نضج كبير للعناصر الهولاندية مثل شنايدر (المحترف في إيطاليا) وماتيازن (مدافع هامبورغ الألماني) وهايتينغا (مدافع أتلتيكو مدريد الاسباني) وفان بومل (متوسط ميدان بايرن ميونيخ الألماني) هنا نجحت هذه العناصر في نقل كل ما تعلمته إلى منتخبها الذي أصبح يضم فسيفساء من الأساليب التكتيكية الرفيعة وبات منتخبا متعدد الثقافات الكروية، صبّ كل ذلك في طاحونة التماسك الهولندي وولّد طاقة فريدة لهذا الفريق. حنكة المدير الفني كل هذه العناصر التي تحدثنا عنها سابقا، وجدت رجلا قادرا على توظيفها واستثمارها بفكر تدريبي، قطع مع فكر سلفه ماركو فان باستان ونتحدث عن المدرب بيرت فان مارفيك هذا الرجل مزج أساليب عديدة، فقد حافظ على النفس الهجومي المتولد عن نظام الكرة الشاملة وهذا يعود إلى كونه كان يلعب في خطة مهاجم عندما كان لاعبا، فانتقل بطريقة لعب هولاندا من 4 4 2 إلى 4 3 3 وألزم المهاجمين بواجبات دفاعية والاجتهاد الأكثر في المعاضدة ونتحدث هنا عن كويت وروبين لذلك لاحظنا تماسكا غير مسبوق في الخطوط، قلل من الضغط على الدفاع الذي مازال يعاني بعض الثغرات. المدرب السابق لفينورد الهولندي وقلعة السرايا التركي لم يحظ في البداية بتوافق جماعي في هولاندا لكنه أثبت جدارته في التصفيات عندما تأهلت هولاندا كأول منتخب في العالم يبلغ النهائيات. تولى المهمة في جويلية 2008 وهو من مواليد 19 ماي 1952، ميزته الأساسية، قدرته على قراءة مجريات المباراة، ونذكر كيف خرج منتخب هولاندا منهزما في الشوط الأول أمام البرازيل، ثم ظهر بوجه مغاير في الشوط الثاني، خلنا معه أن الفريق تغير بأكمله، ثم أعاد نفس السيناريو في مباراة نصف النهائي أمام الأوروغواي حيث أقحم فان ديرفارت في الشوط الثاني ليساهم اللاعب في إضافة منتخب بلاده لهدفين. أسباب عميقة وموروث كروي التفوق الهولندي الحالي، ضارب في القدم وتعود جذوره إلى تاريخ كروي تليد لهذا البلد في لعبة كرة القدم حيث تأسس الاتحاد الهولندي للعبة في 1889 وانضم للفيفا عام 1904 مما يعني عراقة كروية ولدت قوة طبيعية. النقطة الثانية في هذا الفصل يجب أن نتحدث فيها عن محراث الكرة الشاملة، حيث عرف العالم الرياضي معنى اللعب الجماعي من خلال الأسلوب الشامل في عام 1970 على يد الهولنديين بقيادة كرويف، وهو ما قوض المفهوم التقليدي للكرة التي كانت تعوّل على الفنيات الفردية والانجازات الشخصية.. هذا المفهوم الجديد يعتمد على جميع اللاعبين في حالة الهجوم والدفاع بحيث الكل يدافع والكل يهاجم هذا الأسلوب الرائع طبقه نادي أجاكس أمستردام الهولندي خلال فترة السبعينات وكان السبب الأساسي في سيطرة أجاكس على الكرة الأوروبية في تلك الفترة من خلال الفوز ببطولة دوري أبطال أوروبا ثلاث مرات متتالية (1971 1972 1973) فاختار المدرب الوطني الهولندي آنذاك ميشيل رينس الاعتماد على ذلك الأسلوب في كأس العالم 1974 لتبلغ هولاندا النهائي في تلك الدورة وتكرّر نفس الانجاز في 1978. النقطة الثالثة التي يجب ذكرها في مسار عرضنا لأسرار التفوق الهولندي هو تركيز الاتحاد الهولندي لكرة القدم على منهج تكوين الشبان وتطوير المواهب عبر الأكاديميات الرياضية حيث تعتبر أكاديمية أجاكس أمستردام من أفضل وأعرق الأكاديميات في العالم وأنجبت العديد من الأسماء ويكفي أن نذكر أن شنايدر وفان ديرفارت ورايان بابل والحارس ستيكيلمبوغ من خريجي هذه الأكاديمية دون أن ننسى جيل 1995 الذي أهدى أجاكس لقب دوري أبطال أوروبا في تلك السنة ونتحدث هنا عن كلويفارت ودافيدس وسيدورف، وكومان وغيرهم..